"العربي يفكّ "شيفرة" مركب رشيد: مسار الموت بإشراف حرس الحدود

23 أكتوبر 2018
ينتظرون المركب (ابراهيم رمضان/ الأناضول)
+ الخط -
لن تُفضّل الحكومة المصرية أن تبقى قضية مركب رشيد مفتوحة حتى الوصول إلى المتهمين الحقيقيين ومحاسبتهم. لكن ثمة شبكات متصلة تتاجر بأحلام البسطاء المتهمين بالفرار من جحيم الظروف الإقتصادية الصعبة إلى نعيم الحياة في بلاد اليورو، رحلة غالباً ما تنتهي في قاع البحر. تضم الشبكة الواحدة سمساراً ومهرباً بالشراكة مع قوات حرس الحدود المصرية. "شيفرة" لم يكن سهلا فكّها في تحقيق لشبكة تلفزيون "العربي"، حاول من خلاله السعي وراء أدلة قاطعة خلف تورط حرس الحدود في غرق المركب.

البداية من مركب رشيد

"حرس الحدود كان شايفنا وعمل نفسه مش شايف". هذا أبرز ما تضمنته شهادة ع.ز.، الناجي من مركب رشيد الذي غرق في 21 سبتمبر/ أيلول عام 2016، والذي كان على متنه أكثر من 350 مهاجرا غير شرعي في طريقهم إلى إيطاليا، غرق منهم 204. انتقلنا إلى محافظة البحيرة حيث يقيم غالبية الناجين من الرحلة، خصوصاً في مركز رشيد. وكان لنا لقاء مع الناجي محمد مبروك، وهو شاب مصري عاطل من العمل، أفادنا بأنه كان يرغب في السفر للحصول على فرصة عمل والتخلّص من الحياة الصعبة التي يعيشها في مصر. يقول: "أولاً، في بلادنا شباب كثيرون يسافرون ويرسلون المال وقد بات مستقبلهم أفضل. لهذه الأسباب نفكر في السفر".

الناجي الثاني والذي نعرفه هنا بـ ع.ز.، حكى لنا عن مدى معاناته في تدبير مصاريف رحلة السفر التي كان يحلم بها ليل نهار حتى يلتحق بأصدقائه الذين يحدثونه عن حياتهم الجيدة في مدينة ميلانو الإيطالية. "قلت أسافر لأصدقائي في الخارج، الذين يتقاضون مبالغ أفضل من هنا، ويعيشون أفضل من هنا". كان "ع" أول خيط لنا في وصف الرحلة. يقول: "ذهبت إلى سمسار ومنه إلى مندوب ومنه إلى صاحب المركب. بعد نحو يومين، اتصلوا بي وذهبت إليهم، ووضعونا في مخزن عبارة عن قن للدواجن".

ناجون (محمد الشاهد/ فرانس برس) 


من البر إلى قاع البحر

تفيد شهادات الناجين بشكل متطابق بأنّ المهرّبين اقتادوهم بعد صلاة العشاء من اليد الثاني "مدينة رشيد" إلى مزرعة دواجن في اليد الغربي "برج رشيد"، وبقوا هناك حتى الساعة الثانية ليلا، ثم اقتادوهم إلى أرض قرب البحر حتى ساعة متأخرة. بعدها اقتادهم "الديلر" إلى الشاطئ حيث سينطلقون في رحلتهم.

ركب المهاجرون على متن زوارق صغيرة تقودهم إلى مركب صيد كبير. يقول سيد حسين أحد الناجين من المركب، إنه أخبر القبطان أن الحمولة زائدة جداً، لكن أحداً لم يستمع إليه. "قولنالهم احنا حمولة يامه أوي (حمولة زائدة)، قالولنا في خمسين نفر كمان جايين". يضيف: "جالنا مركب بالليل محمِّل 150، واحنا كان عددنا في المركب الكبير 200. بقينا 350 وحطوهم بالإكراه تحت تهديد السلاح". ويؤكد على ما قاله الناجي محمد مبروك: "اللي هيتكلم هيقتلوه، معندهمش غالي (سيقتلون من يتكلم). ولما جه الريس يدوِّر المركب ميّل خالص ع الجنب. المركب هيتقلب خلاص. كلنا ساعتها زعقنا واقف وبتاع هنموتوا.. طلّع التليفون اتصل بصاحب الرحلة وقاله ابعتلي مركب تاخد 50 شخص. قاله أنا مش هبعت حد واطلع بالمركب وإلا هتلاقي مراتك وعيالك مدبوحين ومستنينك على البر".



"نزلنا على شط البحر من وسط حرس الحدود"، بحسب ع.ز. بدأت الخيوط تتكشف، إذ أجمعت شهادات الناجين على أنهم عبروا تحت عين حرس الحدود وبترتيبات مسبقة مع المهربين. ويقول شاهد العيان عبد الحميد دياب إن حرس الحدود حصلوا هلى رشوة. "في نقط سواحل لو مدفعتش مش هتعدي، تدفع تنزل" (في بعض النقاط لن يسمح لك بالمرور إلا إذا دفعت المال). لكننا سنحتاج إلى دليل أقوى غير شهادات الناجين.

الاتهام الأول

تمهيداً لفك شيفرة القضية المتعلقة بعلم حرس الحدود بمواقع تمركز وتخزين الهاربين قبل انطلاق رحلات الهجرة، وغض الطرف عن هذه التجمعات في ظل الأوضاع الأمنية ورصد أجهزة الدولة وسيطرتها الكاملة على الأوضاع، يقول عسكري سابق في حرس الحدود يدعى علاء ظافر، وهو مُهاجر غير شرعي سابق وشقيق أحد الضحايا، إن حرس الحدود كان يعلم بغرق المركب من الساعة الخامسة صباحاً ومكتب مخابرات رشيد". يضيف: "قلت للعسكري أن يرسل إشارة إلى المركب الحربي الذي قد يصل إلى مركب رشيد خلال خمس دقائق، لكنه رد أنّه ليس لديه تعليمات".

عن شبكة التلفزيون العربي 


كانت مراكب الصيد قد تلقت إشارات واتصالات بالتزامن مع قوات حرس الحدود. يقول الريس محمد الحصري، صاحب مركب صيد ومشارك في الإنقاذ، إنهم وصلوا إلى المركب بعدما غرق، ووجدوا جثثاً كثيرة تطفو على سطح الماء. يضيف علاء ظافر أن قوات حرس الحدود رفضت في البداية ولمدة ساعتين أي تحرك لمراكب الصيد أو إعطاءهم رخصة للإبحار.

استطعنا الحصول على تسجيلات اللاسلكي الخاصة بقوات حرس الحدود، والتي تفيد بأن ثمة تباطؤاً شديداً خلال إنقاذ المركب، وأن قوات الإنقاذ التابعة للجيش لم تبدأ في التدخل سوى فجر اليوم التالي. هنا يبرز سؤال مهم: لماذا لم تبدأ الوحدة في إنقاذ المركب مبكراً؟

أثناء البحث، عرفنا معلومة مهمة كانت أول خيط جعلنا نشك في قوات حرس الحدود. يوم غرق مركب رشيد في 21 سبتمبر / أيلول عام 2016، وصلت رحلة أخرى انطلقت من ذات النقطة، أي أن رحلتين خرجتا من مصر إحداهما وصلت والأخرى غرقت. كيف مرت الأولى وغرقت الثانية؟ وقد أطلعنا حسين كناريا على تفاصيل الرحلة التي خرج على متنها إلى إيطاليا في ذات اليوم، لافتاً إلى أنه عرف بغرق المركب الآخر بعد أسبوعين من وصوله بسبب انقطاعه عن الإنترنت ووسائل الاتصال. كما يؤكد محمد خضر وهو محامي المتهمين بالقضية: "كنا نعرف عن رحلة وصلت في اليوم نفسه. الناس دي مبتعديش (لا تمر) من مكان واحد".

تضامناً مع الضحايا (شيماء أحمد/ الأناضول) 


الاتهام الثاني

كنا لا نزال في حاجة إلى دليل أقوى يثبت تورط حرس الحدود في مثل هذه الرحلات. خلال بحثنا، عثرنا على العديد من المنشورات التي تشير إلى تفاصيل دقيقة لرشاوى يحصل عليها حرس الحدود في منطقة بوغاز رشيد للسماح بمرور مراكب التهريب، وتعاونهم مع المهربين في هذه التجارة.



وبعدما تواصلنا مع المهربين، وافق أحدهم على الحديث، وقد رافقناه عبر رحلة من نفس النقطة التي غرق بها مركب رشيد. ويقول قائد أحد زوارق الرحلة إن الرائد المسؤول عن نقطة حرس الحدود يكون على علم بالرحلة وموعدها، ولا يسمح للعساكر بتفتيشها. ويسمح بمرورها في مقابل نصف مليون جنيه من أصل 3 ملايين (سعر الرحلة)، بحسب المهرّب ح.ن.
مررنا مباشرة من أمام نقطة مراقبة تابعة لحرس الحدود، ولاحظنا مركب التهريب يمر تحت مراقبة حرس الحدود، وقد سجلت الكاميرات ووثقت ذلك ليكون دليل اتهام رئيسيا على سماح حرس الحدود بل ومشاركته في تجارة التهريب المستمرة.

خلال رحلة البحث أيضاً، قابلنا أحد الشركاء في رحلة رشيد، سنشير إليه بـ "ر.ن.". يقول إنه اختار هذا العمل بسبب ظروف البلاد الاقتصادية، لافتاً إلى أن قوات حرس الحدود متورطة بشكل أساسي في غرق المركب، لأنه أبلغهم بمكانها في تمام الساعة الرابعة والنصف من فجر يوم الغرق. يضيف أن قوات حرس الحدود تشارك في مكاسب الرحلات، قائلاً: "حرس الحدود كنا بنروح نتفق مع الوردية وبياخدوا مننا فلوس وهما اللي بينزلوا بإيديهم". هكذا يمكن الجزم بصحة ادعاءات المهربين والسماسرة بترتيباتهم الكاملة مع حرس الحدود، وربما ما هو أكبر من ذلك.

في انتظار تسلّم الجثث (محمد الشاهدر/ فرانس برس) 


قضية مركب رشيد أمام القضاء المصري

ثمّة اتهامات أُثيرت حول طمس اسم المركب عند استخراجه للتعتيم على المالك الحقيقي. وخلال بحثنا في أوراق القضية، وجدنا تضارباً واضحاً في تسمية المركب وتلاعباً بمحاضر التحريات. المحضر الأول رقم 109 لعام 2016، يقول إن اسم المركب "موكب الرسول"، بينما تفيد أوراق الحكم 17463 لعام 2016 الصادر عن محكمة جنح رشيد، بأن اسم المركب "الرزق بإذن الله". فأي منهما هو الاسم الحقيقي للمركب ولماذا تم تغييره؟
خلال التحقيق حاولنا التواصل مع الجهات الرسمية لإعطائهم حق الرد، وسجلنا مكالمة بيننا وبين العقيد تامر الرفاعي، المتحدث العسكري والمنوط به الرد على أي شيء موجه للجيش المصري. لكنه رفض أن يدلي بتصريحات لنا بحجة أنه لا يعرفنا، على الرغم أننا أعلمناه أننا صحافيون نعمل في شبكة "التلفزيون العربي".

ما زال البعض يظن أن ملف مركب رشيد قد أُغلق. لكن أعدنا فتح قضية غرق مركب ممتلئ بالمهاجرين غير الشرعيين على أمل أن يلقى المتسببون في كارثة رشيد محاكمة عادلة تخضع لأدلة حقيقية وليس اتهامات وهمية لمتهمين بالنصب والاحتيال.

شاهد التحقيق كاملًا في الرابط التالي: