التعليم الخاص هروب من المدارس الحكومية في العراق

31 يناير 2018
الأهل المقتدرون يفضلون المدرسة الخاصة (رعد الجماس/ فرانس برس)
+ الخط -

تشهد السنوات الأخيرة في العراق صعوداً كبيراً لمؤسسات التعليم الخاص على حساب المدارس الحكومية التي تشهد تدهوراً على المستوى التربوي، وتخلفاً في التجهيزات، عدا عن اكتظاظ صفوفها الكبير.

يستذكر العراقيون باستمرار أحوال التعليم الحكومي في بلادهم قبل الغزو الأميركي عام 2003، وهم يقارنون ما وصل إليه اليوم من مستوى هزيل، إذ يؤكد المنتدى الاقتصادي العالمي في ديسمبر/ كانون الأول 2016، خروج العراق من معايير جودة التعليم.

يبقى الفساد الحكومي السبب الأول في تدهور التعليم، مثلما هي الحال في بقية قطاعات الدولة، إذ تصنف منظمة الشفافية الدولية العراق في المرتبة الثامنة بين أكثر البلدان فساداً في العالم.

وبينما كانت الحكومة العراقية قبل عام 2003 تسمح بافتتاح رياض أطفال وكليات خاصة، وتستثني من ذلك المدارس الابتدائية والثانوية، لتحافظ على جودة التعليم، اختلف الأمر بعد هذا التاريخ، وباتت تنتشر المدارس الخاصة، الابتدائية والثانوية، في جميع محافظات البلاد. ليس ذلك فقط، بل إنّ ثقة المواطنين تنالها فقط المدارس الخاصة اليوم، بعدما شهدت المدارس الحكومية تدهوراً كبيراً بشهادة المواطنين، وتأكيد نتائج الامتحانات العامة التي تظهر ارتفاع نسبة الرسوب.

يقول محمد العيساوي، الذي عمل في إدارة عدد من المدارس الخاصة، إنّ "بداية إنشاء هذه المدارس كانت لجذب التلاميذ من أبناء العائلات الميسورة، وما شجع المستثمرين في إنشاء هذه المدارس هو تدهور حالة التعليم الحكومي". يضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "تطبيق منهاج تدريسي وإداري يفرض على جميع الكوادر التعليمية والإدارية القيام بواجبهم مكّن هذه المدارس من تحقيق النجاح". يتابع: "في الوقت الذي تصل أعداد التلاميذ في الصف الواحد داخل المدارس الحكومية إلى 50 تلميذاً وربما أكثر، ويتزاحمون في الجلوس على المقاعد ويصل الأمر إلى حد الجلوس على الأرض، مع نقص الأثاث، وعدم وجود أجهزة تكييف الجو صيفاً وشتاءً، فإنّ المدارس الأهلية (الخاصة) لا تعاني من كلّ هذه المشاكل، إذ لا يتجاوز عدد تلاميذ الصف الواحد فيها عشرين، وتوفر لهم مقاعد مريحة وصفوفاً مكيفة ووسائل تعليمية عديدة ومتطورة". يشير العيساوي إلى أنّ "استمرار تدهور التعليم الحكومي، شجع على افتتاح المزيد من المدارس الخاصة، التي أصبحت مشروعاً استثمارياً ناجحاً بالنسبة لأصحاب رؤوس الأموال بل أصبحت مجموعات من الأشخاص تتشارك لافتتاح مدارس خاصة، حتى فاق عددها في العراق 1300 مدرسة".



ويؤكد العيساوي أنّ الدراسة في المدارس الخاصة لم تعد حكراً على أبناء العائلات الميسورة: "باتت العائلات التي تعتبر من الطبقة الأدنى وحتى الكثير من العائلات الفقيرة، تستدين لأجل تعليم أبنائها في هذه المدارس. أيضاً، فالعديد من إدارات المدارس شجعت هذا الأمر من خلال تقسيم المبلغ إلى أقساط بحسب مقدرة العائلات".

في العراق، ما زالت هناك مدارس بدائية مبنية من الطين، تتواجد في القرى، خصوصاً مع خروج مئات المدارس من الخدمة. ويعود تاريخ إنشاء هذه المدارس إلى عشرات السنين. يأتي هذا في وقت تحتاج فيه البلاد إلى بناء آلاف المدارس الجديدة، بعدما توقفت عن بناء المدارس منذ أكثر من ثلاثة عقود، بسبب الحصار الذي مرت به البلاد في تسعينيات القرن الماضي، ثم الغزو وما تبعه من عدم استقرار فضلاً عن الفساد الذي استشرى في المؤسسات الحكومية وساهم في ضياع فرصة تحقيق إنجازات في قطاع التعليم، ما جعل كثيراً من المدارس تعتمد الدوام الثنائي وبعضها الثلاثي في اليوم الواحد.

وكانت وزارة التربية العراقية، كشفت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عن حاجة الوزارة إلى أكثر من 10 آلاف مدرسة لسد الشواغر وإنهاء ظاهرة الدوام الثلاثي. وقالت الناطقة باسم الوزارة، سلامة الحسن، في بيان إنّ "وزارة الإسكان والإعمار ووزارة الصناعة السابقتين تعاقدتا مع شركات قطاع خاص لبناء المدارس" مشيرة إلى أنّ "50 في المائة من الأموال المرصودة أحيلت إلى تلك الشركات التي لم تنجز سوى 10 في المائة من الأعمال". وأكدت الحسن أنّ "العراق في حاجة إلى 10.000 مدرسة لسد النقص الحاصل وإنهاء قضية الدوام الثلاثي" مشيرة إلى أنّ "قلة التخصيصات المالية أثرت بشكل كبير على بناء المدارس".


من جهته، يقول حسن السعدي، وهو صاحب شركة للمقاولات، عمل في العديد من المشاريع الحكومية، من بينها المدارس، إنّ "أيّ مشروع حكومي لا يحال إلى شركة مقاولات من دون أن يكون هناك تنسيق بين هذه الشركة ومسؤولين في الوزارات الحكومية، وهو تنسيق غير مشروع". يوضح لـ"العربي الجديد" أنّ "من بين هذه المشاريع أبنية المدارس. بعض المدارس تحال إلى مقاولين لأجل إعادة التأهيل، أي أعمال صيانة المرافق الصحية والكهرباء والطلاء والترميم، لكنّ المبلغ المخصص يكون أكبر بأضعاف من الكلفة الفعلية، وهذه المبالغ يتقاسمها مسؤولون في وزارة التربية، أو في مجلس المحافظة، أي بحسب الجهة الحكومية المسؤولة عن المشروع".

يؤكد السعدي أنّه حصل على مشاريع تأهيل مدارس في إحدى المحافظات، ويبيّن أنّ "كلفة تأهيل كلّ مدرسة تكفي لبناء مدرستين جديدتين، فضلاً عن مشاريع أخرى اطلعت عليها وجدت أنّ كلفة بناء كلّ مدرسة تكفي لبناء ثلاث مدارس أو أكثر".

وفقاً لما أثير من قبل جهات سياسية حول ملفات الفساد الحكومية التي شملت مشاريع بناء وتأهيل المدارس فقد أنفق العراق منذ عام 2003 أكثر من 22 مليار دولار أميركي على قطاع التعليم الأساسي، وتُعتبر مشكلة المدارس الطينية (مدارس مبنية من الطين) من أبرز ملفات الفساد، حيث تم تخصيص ميزانية لبناء مدارس حديثة وإزالتها، لكن ما زال يوجد أكثر من الفي مدرسة طينية بالعراق. وتواجه وزارة التربية العراقية العديد من ملفات الفساد أهمها "فضيحة المدارس الحديدية"، التي استولت من خلالها شركة إيرانية على نحو نصف مليار دولار، من دون أن تنجز أيّاً من تلك المدارس.



كلّ يوم يمر إيهاب صادق من أمام بناية المدرسة القريبة من بيته، التي أمضى فيها دراسته الابتدائية، وهو يستذكر ما يصفها بأنّها "أجمل مراحل حياتي". يقول لـ"العربي الجديد": "هذه المدرسة كانت حديثة البناء عام 1979 حين دخلت إليها تلميذاً في الصف الأول. كان طموحي أن يتعلم أطفالي فيها لشدة حبي لها وتعلقي بها، وهذا ما فعلته في بادئ الأمر، لكنّي شعرت بالأسف إذ اضطررت إلى إدخال ولديّ في مدرسة خاصة". يضيف: "قبل عشرة أعوام التحق ولدي محمد في الصف الأول وبعدها بعام واحد التحق شقيه الأصغر بلال، وكنت أحرص على أن يستمرا في الدراسة بهذه المدرسة الأثيرة على قلبي، لكنّي اكتشفت عدم اكتراث الكادر التعليمي بتعليم الصغار، وكان الجزء الأكبر من التعليم يقع على عاتقنا أنا وزوجتي، فضلاً عن نقص أثاث الصفوف وعدم توفر وسائل تدفئة في الشتاء ولا تبريد في الصيف. ولداي تعبا كثيراً".


لم تكن تلك شكوى إيهاب فقط، الذي يقول إنّه من خلال علاقته بالعديد من أولياء أمور التلاميذ علم أنّها مشكلة يعاني منها الجميع، ولم تكن الشكاوى التي يرفعونها للجهات الحكومية المسؤولة تجدي نفعاً، بحسب قوله. يتابع: "كان لزاماً عليَّ أن أنقل ولديّ إلى مدرسة خاصة، فقد توضح لي أن المشكلة التعليمية عامة في جميع المدارس الحكومية. منذ دخول أولادي لمدرسة حكومية وهما يحققان علامات جيدة. هذه المدارس متميزة والتعليم فيها متطور وإداراتها تحرص باستمرار على توفير أحدث وسائل التعليم وطرق التدريس التي تنمي قدرات الطلاب الفكرية" مشيراً إلى أنّه يدفع في العام الدراسي الواحد 2900 دولار لتعليم ولديه: "لست ميسوراً لكني وزوجتي نقتصد كثيراً في مصروفنا لتوفير هذا المبلغ".

هناء عباس، هي الأخرى نقلت ابنتها إلى مدرسة أهلية، بعدما وجدت في التعليم الحكومي "خسارة في الوقت والمال" بحسب قولها. تشير لـ"العربي الجديد" إلى وجود "كثير من المشاكل وأولها الفساد الإداري وفساد أغلب الكوادر التعليمية" موضحة أنّ "التعليم اليوم اختلف كثيراً عن التعليم في السابق. إنّهم اليوم لا يوصلون المعلومة للتلميذ بالشكل الصحيح، كي نضطر إلى الاستعانة بالدروس الخصوصية". تضيف: "بالنسبة لي، اختصرت الوقت والمال، وحولت دراسة ابنتي من المدرسة الحكومية إلى الخاصة، فبدلاً من اضطراري لدفع المال إلى معلمين خصوصيين، نقلتها إلى مدرسة خاصة، وأصبحت تكتفي بالحصص التي تأخذها داخل المدرسة".
دلالات