مدرهة حجاج اليمن

05 سبتمبر 2017
تبقى المدرهة منصوبة طوال شهرين (العربي الجديد)
+ الخط -

عودة اليمني من رحلة الحجّ تترافق مع عادات وتقاليد عدة لأهل بيته وأقاربه وجيرانه. فكما الوداع إلى مكة المكرمة، يحرص اليمنيون في مناطق مختلفة على بعض الفعاليات التي توارثوها منذ عشرات السنين في استقبال الحاجّ العائد بعد الرحلة الشاقة.

تختلف هذه الفعاليات بين منطقة وأخرى في اليمن، فيلقي الأهالي الأدعية ويقيمون الموالد والرقصات ويرددون الأهازيج والأغاني الشعبية ويعقرون الذبائح ويطلقون الألعاب النارية والرصاص الحي في الهواء. أبرز هذه الفعاليات ما يُعرف بالمدرهة أي الأرجوحة، فما إن تبدأ أفواج الحجاج اليمنيين بالمغادرة إلى مكة، حتى يبدأ سكان المناطق التي يسكن فيها الحاجّ بنصب أعمدة المدرهة وترديد أهازيج وأغانٍ تتمنى للحجاج أن يتقبل الله منهم أعمالهم ويعيدهم سالمين إلى أهلهم ومحبيهم.

في هذا الإطار، يقول الحاجّ ناجي الصايدي (69 سنة) إنّ نصب المداره في موسم الحج أحد أهم الطقوس والعادات التقليدية المتوارثة في صنعاء وبعض المحافظات المجاورة. يعتبر أنّها "جزء من الإرث الحضاري الذي أورثه الأجداد للأبناء". يضيف الصايدي أنّ "المدرهة تنصب من أجل توديع الحجاج والاحتفال بعودتهم سالمين، وهي في جوهرها فعالية شعبية يقصد بها الإعلان عن كون هذه الأسرة أو تلك لديها حاجّ ينوي السفر لأداء مناسك الحج أو قد رجع سالماً".

تنصب المدرهة في أرض واسعة قريبة، أو في فناء منزل الحاجّ، فيجتمع الأقارب والأصدقاء والأطفال للابتهاج بهذه المناسبة الدينية ورؤية الحاجّ. وفي العادة، يتولى "المتمدره" أي من يركب الأرجوحة، غناء أهازيج شعبية بألحان تثير عاطفة المحتشدين وتؤجج مشاعر الشوق والحنين لزيارة بيت الله الحرام. بالترافق مع ذلك، توضع مصابيح أمام منزل الحاجّ، وتزين المدرهة بكسوة تخصص من ملابس الحاجّ نفسه. يقول الصايدي: "يجري كذلك توديع واستقبال الحاجّ بالزغاريد والتسابيح في مآذن المساجد إيذاناً باللحظتين، وتقام أيضاً جلسات الموالد للتذكير بمناقب الرسول وغيرها، والحديث عن مكة المكرمة والمدينة المنورة".

من جهتها، تقول أم إبراهيم إنّ نصب المدرهة يكون عادة في بداية شهر ذي الحجة، وتستمر من بعده قائمة طوال شهرين وربما أكثر أحياناً. تقول إنّ نصب المدرهة في فناء منزل الحاجّ يرتبط بالذاكرة الشعبية ورمزية حلول العيد، وإتاحة الفرصة لأطفال القرية أو الحيّ للهو بالمدرهة استبشاراً بعودة الحجاج من مكة المكرمة سالمين.

تضيف أم إبراهيم التي شاركت مراراً في التجهيز لاستقبال الحجاج: "على الرغم من أنّ هذه العادات الاجتماعية قديمة جداً، إلاّ أنها ما زالت حاضرة إلى هذه اللحظة وإن كانت بشكل أقل". تشير إلى أنّ مظاهر استقبال الحجاج العائدين من أداء فريضة الحج تطورت: "يتولى أهل الحاجّ وجيرانه الإعداد لاستقباله بموكب من السيارات تتعالى فيه أصوات أبواق السيارات والألعاب النارية، ويوضع على واحدة من تلك السيارات مكبر صوت يصدح بالتواشيح الدينية المخصصة لهذه المناسبة. كذلك، تجهز النساء مأدبة غداء للضيوف الذين يأتون لاستقبال الحاجّ".




إلى ذلك، يتولى أحد الحاضرين أداء التسابيح اليمنية إلى جانب الحاجّ ومن حولهما الناس، ويقول بعض الجمل التي يشير فيها إلى نعمة الحج منها: "يا مبشر بالحج بشارتك بشارة.. هنيَت لك يا حاجنا فزت بالغفران.. زرت قبر المصطفى وتلمس الأركان".

ومن لا يهتم بمثل هذه الفعاليات من الحجاج العائدين من الحج، يكتفي باللقاء بأصدقائه وأقاربه وجيرانه مساء في الأيام التالية ليوم عودته في مجالس تخزين القات، فيوزع الهدايا على الحاضرين، وعادة ما تكون مسابح وسجادات وحلويات للأطفال.

يقول الباحث في التاريخ والفولكلور الشعبي أحمد مثنى لـ"العربي الجديد": "هذه الفعاليات في طبيعتها تعبير اجتماعي يمزج بين لحظات الحزن لفراق الحجاج ومشاعر البهجة والسرور لعودتهم إلى ديارهم سالمين بعد شهور (أسابيع في الزمن الحالي) من الترحال وتكبد مشقة السفر وعنائه". يشير إلى أنّ هذه الطقوس المليئة بأجواء الفرح لا سيما قديماً "يمكن تبريرها في أنّها كانت نتيجة لحالات القلق والخوف التي تعتري أهل الحاجّ ومحبيه من عدم عودته بسبب احتمال موته أثناء أدائه شعائر الحج أو مقتله من قبل قطاع الطرق". يعلق مثنى: "كان ذلك منطقياً في الوقت الذي لم تكن هناك وسائل اتصال لمعرفة أخبار الحاجّ والاطمئنان عليه، كما أنّ وسائل النقل كانت تقليدية جداً ويمكن أن يتعرض الحجاج لمخاطر كثيرة أثناء رحلة الحج".

يؤكد مثنى أنّ الحاجّ، قبل أن يتوجه إلى مكة، كان يسدد ديونه ويكتب وصيته خشية من عدم عودته أو حدوث ما لا تحمد عقباه، لذلك كانت مظاهر توديعه شديدة الحزن، وفعاليات استقباله صاخبة بالفرح: "أما الآن فإنّ هذه المناسبة الاجتماعية تنظم فقط إحياءً للموروث الشعبي وتعبيراً عن التهاني والتبريكات بزيارة الحاج لبيت الله الحرام وكذلك من أجل نيل هداياه". يُذكر أن عدد حجاج اليمن لهذا العام بلغ 24.500 شخص من مختلف المحافظات.


دلالات