يراهن بعض الخبراء على المؤتمر العالمي للمناخ في بون في ألمانيا، كمدخل للاتفاق على المؤتمر المقبل في بولندا بعد عامَين، بهدف إنجاز تفاهم حول الآليات الملزمة للدول الموقّعة.
يحذّر خبراء متخصصون في التغيّر المناخي من التحديات الجديدة - القديمة التي تواجه البشرية، ومنها ضرب أسس حياة أكثر من مليار إنسان مع ما يرافق ذلك من انعكاسات صحية وإنتاجية خطيرة بسبب ارتفاع درجات الحرارة والأعاصير.
وفي المؤتمر العالمي للمناخ (كوب 23) الذي انطلق في السادس من شهر نوفمبر/ تشرين الجاري ويستمر حتى السابع عشر منه، لا يرى الخبراء أنّ اللجوء والهجرة سوف يبقيان محصورَين بدول الجنوب، إذ إنّ حركة الهجرة الداخلية باتت تؤرّق بعض المجتمعات المتطوّرة.
بعد عامَين من "اتفاق باريس للمناخ"، كان من المفترض أن يكون المؤتمر الحالي للمتابعة التقنية، بيد أنّ انسحاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من الاتفاق أرخى بظلاله على مخرجات ما اتّفقت عليه الدول في عام 2015. ويشير الخبراء إلى نتائج مفزعة من جرّاء عدم تنفيذ بنود الاتفاق بعد مرور 24 شهراً. يُذكر أنّ التنفيذ البطيء والانسحاب الأميركي خفّضا كثيراً من مستوى التفاؤل والطموح إلى الحدّ من تأثير التغيّر المناخي على البشرية. ويرى أهل الاختصاص اليوم أنّ عدم قدرة جزيرة فيجي على عقد المؤتمر على أراضيها هذا العام هو دليل على ذلك.
تغيّر مقلق
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تتحمّل مسؤولية 17 في المائة من الانبعاثات بعد الصين التي تتحمّل مسؤولية 20 في المائة منها، فإنّ واشنطن بدأت بنفسها تتأثّر بمساهمتها في تخريب المناخ. وبحسب ما يفيد خبراء وتقارير ميدانية أميركية، فإنّ أهالي قرية نيوتوك في ألاسكا، وهم من السكان الأصليين، باتوا يهاجرون منها مع التغيّر المناخي الملاحَظ. فذوبان الجليد وارتفاع مستوى المياه والعواصف القوية عوامل تجعل بقاء الناس في مناطقهم أمراً مستحيلاً.
في السياق نفسه، فإنّ السكان الأصليين من قبائل بيلوكسي شوكتاو مهدّدون كذلك. وهم بعدما شرّدهم المستوطنون البيض، حاولوا بناء حياة مستدامة تعتمد على صيد الأسماك والمزارع الصغيرة في لويزيانا وصولاً إلى خليج المكسيك. لكنّ الأراضي راحت تختفي تحت المياه مع اشتداد العواصف المطريّة، وهو الأمر الذي يقوّض الأسس التي بنى عليها السكان مجتمعاتهم المحلية، بحسب ما تشير تحذيرات خبراء رفعوا تقارير أمام مؤتمر بون.
وبما أنّ هذا الأمر على هذه الحال في دولة تملك من القدرات ما لا تملكه دول نامية، لجهة الهجرة الداخلية، فإنّ خبراء المناخ يحذّرون على هامش مؤتمر بون من أنّ "موجات الهجرة واللجوء المناخي" سوف تضرب دول العالم بلا استثناء. ويذهب هؤلاء الخبراء (من جامعات غربية) وكذلك منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي إلى اعتبار التغيّر المناخي قضيّة عالمية مترابطة الحلقات. ويلفتون النظر إلى أنّ "التغيّر الطارئ هو من صنع الإنسان، فلا تكون رجعة عنها بما يؤثّر على البشرية كلها صحياً ووجودياً، الأمر الذي يقوّض الاقتصاد محلياً وعالمياً".
وكان العام الماضي 2016 قد شهد بحسب هؤلاء الخبراء، بفعل الفيضانات والأعاصير والجفاف، خسارات ضخمة للدول النامية لوحدها وصلت إلى حدود 126 مليار دولار أميركي. وهي خسائر أصحاب مداخيل منخفضة، من الذين لا يستطيعون التعويض ولا التأمين. وأكثر من ذلك، يحذّر هؤلاء من أنّ "أكثر من مليار إنسان حول العالم سوف يجدون أنفسهم مضطرين إلى الهجرة من مناطقهم بفعل التغيّرات المناخية، في حال لم يُسجَّل تدخّل فعال وضروري". وتعكس الأرقام المخيفة أنّ المناطق الساحلية سوف تجد نفسها متأثّرة بانهيارات جليدية وارتفاع في منسوب مياه البحار إلى أكثر من 10 أمتار مع عواصف مدمّرة.
ويبدو أنّ نيوزيلندا بدأت تلمس بالفعل تأثيرات التغيّر المناخي على طبيعة بلدان الوافدين إليها من جزر المحيط الهادئ. ويناقش السياسيون هناك، خصوصاً من حزب الخضر والبيئة، ضرورة استصدار تأشيرات بمسمّى "لجوء التغيّر المناخي"، لمنح المهاجرين من مناطقهم حقاً في الإقامة كبقيّة اللاجئين.
هل ينجحان في الصمود مع ارتفاع درجات الحرارة؟ (جاستن سوليفان/ Getty) |
جهود فاشلة
يعيد الخبراء كلّ ذلك إلى "فشل الجهود الرامية إلى الحدّ من انبعاثات غاز الدفيئة والاحتباس الحراري العالمي. فقد سُجّل ارتفاع في درجات الحرارة ما بين 2.6 و4.8 مع نهاية القرن، بالإضافة إلى زيادة بمقدار 125 مليون إنسان ممّن أصابتهم موجات الحرارة المرتفعة فقط في عام 2015 و125 مليوناً في عام 2016". وهو الأمر الذي سوف يؤدّي إلى القضاء على شروط الحياة لأكثر من مليار إنسان بحلول عام 2050، وسوف يُضطرّ هؤلاء إلى الهجرة والبحث عن أماكن عيش أخرى، لتترتّب على ذلك أزمات ضخمة.
وتعيد التقارير المقدّمة في مؤتمر بون "تفاقم المشاكل الصحية القائمة، من قبيل أمراض القلب والأوعية الدموية والفشل الكلوي والتجفاف، مع ملاحظة زيادة في الإجهاد الحراري وضربات الشمس للذين يعملون في الهواء الطلق كالزراعة"، إلى ارتفاع درجات الحرارة عالمياً.
ويستند الخبراء إلى نتائج أبحاثهم بهدف دقّ ناقوس الخطر حول العالم، إذ إنّ الجفاف المتقطّع يتحوّل إلى دائم فيستحيل معه بالتالي العمل والإنتاج في قطاعات محددة. ويشير هؤلاء إلى أنّ "الفترة الممتدة من عام 2000 إلى عام 2016 شهدت انخفاضاً عالمياً في القدرات الإنتاجية في المناطق الريفية بنسبة 5.3 في المائة"، فيما تقول أبحاث حديثة بأنّ "عام 2016 شهد تأثّراً سلبياً في إنتاجية 920 ألف شخص من القوة العاملة حول العالم، وكان نصيب الهند وحدها تأثّر 420 ألف عامل". يُذكر أنّ تلك الأرقام تتعلق فقط بالقطاع الفلاحي المتأثّر بموجات ارتفاع الحرارة، مع ما يحمله ذلك من عواقب كارثيّة للأرياف الأكثر تعرّضاً لانخفاض القدرة الإنتاجية، بالتالي يبحث أهل تلك الأرياف عن سبل حياة أخرى من خلال الهجرة الداخلية والخارجية كذلك".
خلال السنوات الأخيرة الماضية، راح خبراء متخصصون في المناخ يربطون ما بين القلاقل وتزايد موجات الهجرة الداخلية وكذلك الهجرة الخارجية في بعض المجتمعات في الدول النامية. لكنّ الأمر هذه المرّة تجاوز دول الجنوب لتمتدّ تأثيرات التغيّر المناخي نحو الشمال، أي الدول المتطوّرة. ويشير في هذا الإطار عدد من الكتاب المتخصصين في المجال البيئي إلى أنّ بعض الدول "تسعى إلى الحفاظ على أنظمة الحكم وبقاء المجتمعات بعيدة عن القلاقل، من خلال إسراعها إلى تشجير الصحراء (على سبيل المثال) وجعل الظروف البيئية أقلّ طرداً للسكان".
سيارات صديقة للبيئة في بون (باتريك ستولارز/ فرانس برس) |
خسائر بالمليارات
في السياق نفسه، يفيد خبراء من المعهد الدولي للصحة العالمية التابع لجامعة الأمم المتحدة بأنّ الخسائر الاقتصادية العالمية نتيجة انخفاض الإنتاجية سوف تصيب البشرية بخسارة بعد نحو 13 عاماً (في عام 2030) تفوق ألفَي مليار دولار بسبب استحالة العمل أو انخفاض الإنتاجية. وتأثيرات هذه الخسائر المقدّرة في تقرير بحثي (2016) تعني أنّ "43 بلداً سوف تعاني من انخفاض الناتج المحلي بسبب انخفاض الإنتاجية. ومن بين الدول الأكثر تضرراً، سوف نرى مناطق جنوب شرق آسيا تحتل المراتب الأولى".
إلى ذلك، أشار تقرير صادر عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أنّ "دول الخليج العربي وابتداءً من عام 2070 سوف تكون غير صالحة للسكن بسبب ارتفاع درجات الحرارة المهدّدة للحياة البشرية ولصحة الإنسان".
من هنا، فإنّ الربط بين التغيّر المناخي حول العالم وموجات اللجوء على خلفية انخفاض القدرات الإنتاجية ليس أمراً خيالياً بحسب ما جاء في تقارير نشرتها مجلة "ذي لانسيت" للأبحاث، بل هو يتعلّق بسوء الأوضاع الصحية وتزايد الأمراض. وتبدو أمثلة سوء التغذية المتزايدة في بعض الدول مؤشّراً إلى أنّ "الآثار الصحية للتغيّر المناخي هي من أكبر تحديات القرن الحادي والعشرين. فانخفاض المحاصيل الزراعية لا سيّما القمح بنسبة 10 في المائة عالمياً لكلّ درجة حرارة زائدة، سوف يرفع عدد من يعانون من نقص التغذية في 30 بلداً من الأكثر ضعفاً، من 398 مليون إنسان في عام 1990 إلى 422 مليوناً في عام 2016".
والتحذيرات القائلة بكوارث التغيّر المناخي على البشرية، لا يبدو أنّها تلقى آذاناً صاغية لدى أكثر الدول تلويثاً، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. وهي بانسحابها من اتفاق باريس للمناخ قد تشجّع بحسب الخبراء المحذّرين "الدول الأخرى على عدم الالتزام بمسعى خفض الانبعاثات ومحاولة الحدّ من ارتفاع درجات الحرارة على كوكب الأرض، إنقاذاً لحياة مليارات من البشر، خصوصاً في الدول الأضعف".