بيروت تختنق بشرفات الأغنياء

28 يوليو 2016
المدينة التي تختنق (Getty)
+ الخط -
ما هي المساحات العامة؟ يبدو هذا السؤال "الساذج" أكثر من ضروري في مدينة مثل بيروت، مع انعدامها أمام الناس

لا يتّخذ مفهوم المساحة العامة في بيروت الدلالات المتداولة نفسها في مدنٍ أخرى من العالم. في المدن التي تتّبع تخطيطاً وتنظيماً مدنياً يراعي احتياجات الناس، يستحوذ المفهوم على دلالات وأبعاد اجتماعية وبيئية وثقافية. في مدينتنا بيروت التي تشوَّهت فيها المفاهيم والمخططات التنظيمية، لا بل تشوَّهت فيها المساحات العامة المُتبقية بعد عملية إعادة الإعمار، أصبح المفهوم أو الإصطلاح مفرغاً من مضامينه. تتهالك القيم على جنب تهالك المفاهيم لتسقط الأبعاد الاجتماعية والبيئية المرتبطة بمفهوم المساحة العامة. بيروت التي أقامت حربها الأهلية، خرجت إلى تسوية سياسية من أجل حكم يستعير المقاربات الليبرالية والنيوليبرالية للنهوض بمدينة وقعت ضحيّة مرّتين: مرّة عندما واجهت الاقتتال الأهلي ومرّة عندما غُيّبت المقاربات البديلة لإعادة الإعمار واعتُمِدت مقاربات تستبعد في طرحها مصلحة الناس لحساب ذهنية الربح، فقط الربح. راحت عملية إعادة الإعمار إلى أقصى حدود الربح ضاربة بعرض الحائط كل احتياجات الناس المتصلة بمعيوشهم الاجتماعي والبيئي.

عملت مؤسسات الدولة وأجهزتها على تقليص المساحات العامة، تارة عبر بناء مرافقها العامة على أراضٍ تعود ملكيتها للدولة، وطوراً عبر إفلات تنامي السوق العقاري من دون أيّ تدخل تخطيطي يهدف إلى الحد من عشوائيته. خضع مفهوم المساحة العامة لتلك التحديات إلى درجة بدا فيها كأنّه الامتداد الطبيعي لورش المستثمرين العقاريين. لقد أصبحت المساحات العامة بمثابة شرفات للأبنية الفخمة. يتداول المستثمرون وزبائنهم فكرة "المنظر المطلّ" على أنّه قيمة تأجيرية مضافة لسعر العقار. يرفع المستثمرون ثمن المتر المربّع لعقاراتهم بحسب إطلالة العقار. فالشقة السكنية التي تتمتّع بمنظر على حديقة عامة أو حرج أو على شاطئ بحري لها أسعار شبه خيالية لمدينة بمواصفات بيروت. لكنّ هذه المساحة العامة، القيمة المضافة للعقار، توجّه تحديات لأصحاب العقارات. فهؤلاء، "مرتادو" المساحات العامة، عبء على سوق عقاري يحسب سعر المتر بالإطلالة. وسرعان ما فُتِح النقاش في ما بين المستثمرين أنفسهم، وما بين المستثمرين والسلطة السياسية الحاكمة، ناهيك عن أنّه في أغلب الأحيان يكون المستثمر جزءاً أساسياً من التركيبة السياسية الحاكمة، فيلعب دور المستثمر والمرخّص والمُشرعِن لعملية بيع وتوجيه استخدام المساحات العامة في المدينة. هذا النوع من شبكات المصالح عادة ما يقارب المساحات العامة وفقاً لمنظوره القائم على أقصى حسابات الربح. فلا يبالي باحتياجات الناس بقدر ما يبدي انزعاجه من الناس وعلاقاتهم بالمساحة العامة التي تُصنّف شرفة.


عندما نقول مساحة عامة، لا نقصد ما يفهمه تجّار العقار، بل نقصد تلك المساحة التي يرتادها سكان المدينة. المساحة العامة التي تشكل حيّزاً أو مجالاً حيوياً للتلاقي والتواصل والتفاعل في ما بين سكان المدن. هذه المساحة التي تشكّل جزءاً من حياة الناس الذين يراكمون فيها ذاكرتهم ويعزّزون شعورهم بالانتماء إلى مدينتهم. يتّصل الناس أفقياً في تلك المساحات ويتداولون قضاياهم. وتعزيز المساحات العامة وحمايتها، يلعبان دوراً اجتماعياً، في حين يفاقم تقليصها واستلابها لصالح عقارات الأغنياء وغيرهم، الأزمات المختلفة في مدننا. حرج بيروت، على سبيل المثال لا الحصر، يلخّص هذا التصادم بين رؤيتَين أو مقاربتَين لمفهوم المساحة العامة. ثمّة من يريد أن يرفع أسواره ويقنِّن ساعات ارتياده تحت حججٍ واهية، وثمّة (الناس) من يريد تلك المساحة التي كانت مُدرجة أصلاً في حيّز أحيائه قبل أن يأتي المخطط ويعزله بشكل مثلث عن محيطه باستحداث طرقات معبّدة. كان الحرج امتداد لحيّ طريق الجديدة، وكان له موعداً دائماً على الروزنامة الاجتماعية لأهالي المنطقة: هذا حرج العيد!

كذلك، شاطئ الرملة البيضاء وامتداد الواجهة البحرية لبيروت هما محطّ أنظار المستثمرين في مجال العقار. وتشهد الواجهة تعدّيات بالجملة عليها بغية تقليص المساحات العامة. هاجس الناس الذين يقصدون شواطئ مدينتهم حاضر على الدوام لدى أرباب العقارات الشاهقة، تلك العقارات التي تمنع المدينة من التنفّس بسبب منع تبادل التيارات الهوائية الساخنة والباردة فوق فضاء الحيّز المشترك لسكان الداخل. وما كان أمام تلك الشبكة المتعاضدة إلا تسخير كلّ ما يلزم من مؤسسات الدولة من أجل تقليص تلك المساحات العامة وضمّها إلى ورش أعمالهم، وبالتالي تقليص حجم استخدامها من قِبل الناس.

بدلاً من أن يحيا الناس في مدينة تقدّم لهم مساحاتها العامة كحقّ، فإنّهم يموتون في مدينة إثر مشاكل فردية وقتل مقصود بسبب أفضلية المرور، أو يموتون برصاص الحزن والابتهاج والشماتة والربح والخسارة والانتصار.. أو حتى يموتون اختناقاً بروائح مصدرها تلك المساحات العامة التي تحوّلت إلى مطامر تحاصر مدينتهم من الجنوب والشمال. الناس في مدينتهم يدفعون حياتهم ثمن العلاقة الزبائنية التي فرضتها السلطة الحاكمة.
دلالات
المساهمون