غجر روسيا: لسنا متسولين ولا تجار مخدرات

24 يوليو 2016
يعود ذكرهم إلى القرن الثامن عشر (ميخائيل مورداسوف/فرانس برس)
+ الخط -
لم يتمكن الاتحاد السوفييتي بنظامه الشمولي وسيطرة الدولة على كافة مجالات الحياة فيه، من فرض نظامه على الغجر، إذ عرفوا حتى في عهد الشيوعية بالتسوّل وإقامة مبان عشوائية والمضاربة بالسلع في السوق السوداء.

تفاقم وضع الغجر في عهد "البيريسترويكا" في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بعد تراجع سيطرة الدولة. وهو ما أدى إلى زيادة تسرّبهم من التعليم وضلوع أعداد متزايدة منهم في أعمال إجرامية وزيادة الكراهية تجاههم بين المواطنين العاديين.

يوضح الباحث في تاريخ الغجر نيقولاي بيسونوف، أنه على الرغم من ترك السلطات السوفييتية للغجر اتباع نمط حياتهم، إلا أنها وفّرت لهم سكناً وفرص عمل وتعليماً لأبنائهم، إلى أن تغير كل شيء في عهد "البيريسترويكا" التي أطلقها آخر زعيم للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف.

يقول بيسونوف لـ"العربي الجديد": "بعد البيريسترويكا، ازداد ضلوع الغجر في تجارة المخدرات، ما أدى إلى تشويه صورتهم. وغذّت وسائل الإعلام هذه الصورة بالترويج لأنباء قيامهم بالسرقة وجرائم أخرى، وتسرّبهم من التعليم والعمل". يضيف: "لكن إذا نظرنا إلى الإحصاءات الحالية، فسنرى أنّ الغجر لم يعد لهم ضلوع في تجارة المخدرات تقريباً، إذ تم ضبط 11 حالة فقط تختص بضلوعهم في هذه التجارة في مقاطعة موسكو خلال عام كامل".

يحمّل الباحث في تاريخ الغجر وسائل الإعلام الروسية المسؤولية عن تشكيل "الصورة الإجرامية" للغجر، لتجاهلها وجود مثقفين من بينهم وطلاب جامعات وأصحاب مهن مختلفة مثل المدرسين والمهندسين وحتى رجال الشرطة.

وحول طبيعة العلاقة بين الشعب الروسي والغجر الذين يعيشون بينهم، يقول: "لم تحدث خلال الحرب العالمية الثانية أي حالات انشقاق للغجر عن الجيش السوفييتي. خلال الإبادة الجماعية بحق اليهود والغجر من قبل النازيين، كان الروس يخبئون الغجر في منازلهم، معرّضين حياتهم بالذات إلى الخطر".

بحسب الإحصاءات، يبلغ عدد الغجر في روسيا نحو ربع مليون شخص، بينما تشير تقديرات أخرى إلى أضعاف هذا الرقم. يقيم أغلبهم في ضواحي المدن الكبرى مثل موسكو والعاصمة الشمالية الروسية سانت بطرسبورغ، كما أنّ هناك تجمعات للغجر في مقاطعات كراسنودار وبسكوف وسمولينسك وتولا وغيرها.

تصدرت قضايا الغجر المشهد الإعلامي في روسيا أخيراً بعد إزالة أكثر من 100 مبنى غير مصرح به في قرية بليخانوفو في مقاطعة تولا، حيث كانت تقيم إحدى أكبر مجموعات الغجر في البلاد. يؤكد رئيس "مجلس الغجر في موسكو" الفنان المسرحي رومان غروخولسكي أنه يتعين على الجميع الالتزام بالقانون، لكنّ حالة بليخانوفو كانت تتطلب حواراً، وليس إزالة المباني بشكل مباشر من دون عرض أي بديل على قاطنيها.



يقول غروخولسكي في حديثه إلى "العربي الجديد": "عاش الغجر في هذه المنطقة منذ أكثر من نصف قرن وأقاموا مباني، وكانت الأنظمة السياسية تتغير، لكنّ أيّاً منها لم يتعرض لهم حتى الآن". وحول مصير الغجر الذين جرى هدم منازلهم، يضيف: "بعد إزالة المباني، لم يذهب أيّ من سكان القرية إلى مراكز الإيواء، بل انتقلوا إلى بيوت أقربائهم للعيش معهم".

ويرى رئيس المجلس أنّ أكبر المشكلات التي يواجهها الغجر في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، هي التسرّب من التعليم وعدم الاندماج، وذلك بسبب إقامتهم بشكل منعزل عن القوميات الأخرى. يقول: "50 في المائة فقط من أبناء الغجر يستكملون تعليمهم المدرسي، و10 في المائة يتابعون التعليم الجامعي. بينما كان التسرّب من المدارس في عهد الاتحاد السوفييتي في صفوف الغجر من الحالات الفردية لا أكثر. كان هناك نظام لمساءلة الوالدين في حال تسرّب أبنائهما من التعليم، كما كان يجري توفير كتب التعليم ووجبات الغذاء والزي المدرسي مجاناً لجميع التلاميذ بمن فيهم الغجر".

وحول أسباب النظرة السلبية تجاه الغجر في روسيا، يعلّق: "إذا رأيت أيّاً من الغجر يرتدي بدلة وربطة عنق، فلن تنتبه إليه، لكنّ المتسول يلفت الأنظار أكثر من غيره. ليست هناك أمم مجرمة، إنّما أشخاص مجرمون". يوضح غروخولسكي أنّ أنشطة الغجر في روسيا تختلف من مجموعة إلى أخرى، إذ إنّ "الغجر الروس" مثلاً، يعملون في مجال الفن والثقافة، بينما هناك مجموعات أخرى تعمل في مجالات المعادن والبناء.

ومن بين الأمثلة على دور الغجر في الحياة الثقافية في روسيا، مسرح الغجر "رومين" الذي يقدم عروضاً في موسكو منذ أكثر من 80 عاماً. وكان للغجر أيضاً حضور في الأعمال الأدبية الروسية، إذ كان الأدباء الروس يرون في نمط حياتهم المتجول معنى الحرية بعيداً عن "سجن المدن الخانقة"، كما وصف حالها أمير شعراء روسيا ألكسندر بوشكين في قصيدته المطولة "الغجر" في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

يعود الذكر الأول للغجر، وهم شعب له أصول هندية، في تاريخ روسيا إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر، بعدما جاءوا من بولندا، وعرفوا أصلاً بالعمل في تجارة الخيل والعرافة والموسيقى. وقبل الحرب العالمية الثانية، حاولت السلطات السوفييتية إقامة مزارع لهم، كما لم تخل هذه الفترة من عمليات ضبطهم وترحيلهم إلى مناطق نائية. وبعد انتهاء الحرب عام 1945، انشغلت السلطات السوفييتية بإعادة إعمار البلاد، إلى أن صدر في عهد زعيم الاتحاد السوفييتي الراحل نيكيتا خروتشوف عام 1956 مرسوم بتوظيف الغجر المتسولين، واتخاذ إجراءات لإسكانهم في مواقع إقامة ثابتة، ما أحدث استقراراً نسبياً في حياتهم.