على بعد مائة متر من السياج الفاصل الذي شيده الاحتلال الإسرائيلي أقصى شمال قطاع غزة، تحديداً شرق بلدة بيت حانون، يحصد أبو عاطف وهدان محصوله من القمح. في أرضه التي تمتدّ على مساحة أربعة دونمات، ينسى تعبه ويعبّر عن سعادته بالحلم الذي تحقق بعد 15 عاماً. يقول: "كنت أقف بعيداً لأتطلّع إلى أرضي. لم أكن قادراً على الاقتراب منها. كنت أبكي، وأتمنّى أن أسقيها من دموع عينَيّ. اليوم، بيدَي أجني قمحها بفرح".
هذا العام، بتنسيق من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تمكّن مزارعو بلدة بيت حانون من جني محاصيل أراضيهم التي كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد منعتهم من الاقتراب منها، نظراً لموقعها المحاذي للسياج الفاصل. هناك، تنتشر أبراج المراقبة العسكرية ودوريات قوات الاحتلال التي تباشر إطلاق النار باتجاه كلّ من يتحرّك على مقربة من السياج.
بالنسبة إلى المزارعين، هذه لحظة تاريخية بعد جهود حثيثة بذلتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر واتصالات مكثفة بينها وبين الجهات الإسرائيلية المعنيّة. في يناير/ كانون الثاني الماضي، سُمح للمزارعين بدخول أراضيهم ساعات من أجل زراعتها بالقمح. يخبر وهدان: "كنت أتابع نموّ محصولي من بعيد، غير قادر على الاقتراب من أرضي. قد تُطلَق النار من الأبراج العسكرية مباشرة على أيّ شيء يتحرك في المكان. كان هذا يشكّل تهديداً لحياتنا، بالتالي يحرمنا من مصدر رزقنا الوحيد".
منذ عام 2001، حرم الاحتلال المزارعين من دخول أراضيهم إذ صنّف منطقة السياج الحدودي "عسكرية مغلقة وخطرة"، ونشر أجهزة المراقبة الإلكترونية الحديثة، بالإضافة إلى تسيير دوريات له ترصد الحدود باستمرار لمنع أي "محاولة تسلل غير مشروعة ولدرء أي خطر مرتبط بعمليات عدائية".
يقول وهدان وهو منهمك بجني محصوله، "على الرغم من الفرحة الكبيرة بهذا اليوم، إلا أنّ ثمّة خوفاً وقلقاً من غدر القوات الإسرائيلية. كذلك، لا نعرف متى نعود مرّة أخرى إلى أراضينا. هي ملكنا ومن حقنا العودة إليها ودخولها وقت نشاء. ومهما فعل الاحتلال، لن نتخلى عنها أبداً".
محمد المصري مزارع آخر يشدّد قائلاً: "هذه الأرض ملكنا وليس لدينا غيرها. منذ صغري كنت أسمع والدي وهو يحدّث والدتي عن حبّه لأرضه، وكم يتمنى لو أنّه يعيش فيها ويهتم بزراعتها، إذ إنّ بقاءها بور أمر حرام". لطالما كان اعتقاد المصري أنّ "الإسرائيليين استولوا عليها ولن تعود لنا، كما لن تعود الأراضي المحتلة إلى أهلها الذين تحوّلوا إلى لاجئين. لكن بعدما استطاع الصليب الأحمر أن يعيد حقّ والدي في الوصول إلى أرضه، وذهبت معه وتناولنا الغداء في أرضنا، أقول إنّها سوف تبقى أرضنا".
أبو أحمد الكفارنة ربّ أسرة من 12 فرداً، لا يعرف مهنة أخرى غير الزراعة التي ورّثها أبناءه الذين يساعدونه دوماً. هو يملك خمسة دونمات في بلدة بيت حانون، تبعد 150 متراً عن السياج الفاصل. يقول: "نزرع أرضنا بالخفاء. قبل أسبوع، حاولنا الدخول لتفقد محصول القمح لكن الإسرائيليين أطلقوا علينا النار من الأبراج. كثيراً ما يحدث هذا لنا، لعدم توفّر تنسيق مسبق للدخول". ويشير إلى أنّه وباقي المزارعين الذين يملكون الأراضي على حدود شمال القطاع، في حاجة إلى تنسيق يضمن لهم الوصول إلى أراضيهم والعمل فيها من دون خوف، أو انتظار إذن من القوات الإسرائيلية تعطيه للصليب الأحمر.
وفقًا لإحصاءات خاصة بالمؤسسات العاملة في الزراعة في قطاع غزة، فإنّ 25% من الأراضي الحدودية يحظر على المزارعين العمل فيها، الأمر الذي أثّر بشكل كبير على حياة المزارعين وحرمهم من مصدر رزقهم، في ظل الأوضاع المتردية التي يعيشها القطاع وانعدام فرص العمل وارتفاع معدلات الفقر.
وكانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر قد أعلنت في بيان، أنّ مزارعي قطاع غزّة في المنطقة الحدودية الواقعة بين 100 و300 متر، تمكّنوا من الوصول مجدداً إلى أراضيهم بعد 15 عاماً. وتشير المتحدثة الإعلامية باسم اللجنة، سهير زقوت، إلى أنّ الجهود الكبيرة التي بُذلت قد جنت ثمارها وأعادت للمزارعين بعضاً من حقهم في حصاد أراضيهم. تضيف: "أجرينا حوارات غير علنية مع السلطات في غزّة ومع السلطات الإسرائيلية لتسهيل وصول المزارعين، كذلك كثّفت اللجنة وجودها في موسم الحصاد لمراقبة سير العمل فيه وضمان سلامة المزارعين".
وتتابع زقوت، إنّ اللجنة تمكّنت من إعادة ألف هكتار من الأراضي الزراعية في القطاع، منذ العدوان الإسرائيلي الأخير، ومن مساعدة نحو ثلاثة آلاف مزارع في المنطقة الحدودية، حيث يقع ثلث أراضي القطاع الزراعية التي تُعَدّ سلّته. وتوضح أنّ اللجنة سهّلت إخلاء المنطقة من مخلفات الحرب الإسرائيلية الأخيرة على القطاع في عام 2014، وتسوية الأرض بالمعدات وحراثتها وزراعتها بالقمح في يناير/ كانون الثاني الماضي، ليحين موعد حصدها اليوم. وتؤكّد أنّ "كل ما يحتاجه السكّان هنا، هو إعطاؤهم الفرصة لبناء حياتهم من جديد".