"هنا، مساحة لصور وقصاصات صحافيّة من زمن ميلادي". تحت هذا التمهيد، لصقت الوالدة على تلك الصفحة التي اصفرّ لونها مع مرور الوقت، بعض قصاصات بالأبيض والأسود. قصاصات لا تتضمّن نصوصاً عن إنجاز علميّ أو سباق ماراثون مثلاً، ولا صوراً لافتتاح متحف جديد أو معرض فنيّ أو حفل موسيقيّ، ولا غيرها من "لحظات مشرقة" طبعت تلك الفترة. تلك القصاصات بالأبيض والأسود، تحكي عن مواجهات عسكريّة وقصف ودمار وحصار.. تحكي عن فصل من الحرب اللبنانيّة التي تعدّدت فصولها.
كان ذلك على إحدى الصفحات الأولى من "سجلّ طفلي الذهبيّ" الذي خصّني والداي به، تماماً كما خصّا شقيقَيّ بسجلَّين مماثلَين. هما أصرّا على توثيق أيّامنا وشهورنا وسنواتنا الأولى، في تلك السجلات "الذهبيّة" الثلاثة وفي ألبومات صور تبعتها.
في ألبوماتنا التي بلغ عددها واحداً وعشرين ألبوماً، صور كثيرة تحكي عن فصول تعدّدت من الحرب اللبنانيّة، مع اختلاف مراحلنا العمريّة. هي صور لنا، نظهر في بعضها مبتسمين، أمام براميل وأكياس رمل وُضِعت أمام نوافذ بيتنا وأبوابه الحمراء. تلك البراميل وأكياس الرمل التي كان من شأنها أن تردّ شظايا قذائف قد تخترق زجاج تلك النوافذ وخشب تلك الأبواب الحمراء. تلك الشظايا التي كنّا نجمعها بعد كلّ جولة قصف، في عبوات حليب فارغة. تلك الشظايا التي كنّا نتبارى ونحن صغار على جمع أكبر عدد منها، منذ ساعات الصباح الأولى. وفي حال نجح أحد أولاد الحيّ في العثور على قطع أكبر حجماً، هذا يعني أنّه الرابح.. بلا منازع.
13 أبريل/ نيسان 1975. تاريخ شرارة الحرب اللبنانيّة الأولى، أو التاريخ الذي اصطُلح لتحديد بداية تلك الحرب. التفسير غير مهمّ. هو تاريخ حفظناه مثلما حفظنا تواريخ ميلادنا. هو تاريخ طبَعَنا وإن لم نَشهد أحداث ما قيل إنه انطلاقة تلك الحرب. الحرب الأهليّة أو حرب الآخرين على أرضنا.. لا تهمّ التسميات ولا تهمّ خلفيّات التسميات. هي الحرب. تلك الحرب التي كثيراً ما لعبناها بـ"أسلحة" ابتكرناها - صبياناً وفتيات - وقد تماهينا مع أطراف شاركت فيها. تماهينا ببراءة طفولتنا، مع أطراف لم ندرك الكثير عنها ولا حتى القليل. هي كانت أطرافاً حفظنا أسماءها مثلما حفظنا أسماءنا. كثيرة هي تلك الأطراف التي تحصّنت خلف متاريس في مواجهة بعضها بعضاً. أطراف لبنانيّة وأخرى غير لبنانيّة. كلّ واحد منها كان يحمل لواء "قضيّة". هي قضيّة - قضايا - محقّة بالنسبة إلى هؤلاء الذين استماتوا في الدفاع عنها.
على تلك الصفحة التي اصفرّ لونها مع مرور الوقت، مثلما اصفرّت صفحات "سجلّ طفلي الذهبيّ" الأخرى، قصاصة تظهر فيها خريطة لبنان مهشّمة نشرتها إحدى الدوريات.. قصاصة قد يصحّ تأريخها في أيّ 13 أبريل/ نيسان.