جزائريون صغار بين المرعى والمدرسة

12 ابريل 2016
انتهى الدوام المدرسي، فتوجّهت إلى الحقل (إسماعيل مالكي)
+ الخط -

دقّت وزارة الصحة في الجزائر نهاية السنة الماضية، ناقوس الخطر بخصوص عودة القمل إلى رؤوس تلاميذ المدارس، ليس في القرى والتجمعات السكنية النائية فحسب، إنما أيضاً في المدن الكبيرة مثل الجزائر العاصمة وقسنطينة. وهو الأمر الذي فتح نقاشاً واسعاً حول الظاهرة إذ تُعدّ مؤشراً إلى تراجع المستوى المعيشي للجزائريين، في ظل سياسة التقشف التي فرضها هبوط أسعار النفط.

مؤشرات أخرى بقيت بعيدة عن الرصد، منها عودة ظاهرة رعي التلاميذ للأغنام أو الماعز أو البقر بعدما أوشكت على الاختفاء بفعل البحبوحة المالية التي عاشها الجزائريون خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة. في السابق، كانت الظاهرة محصورة في الأرياف البعيدة، نظراً لندرة المواد الاستهلاكية مثل الحليب، أما اليوم فقد باتت ملاحظتها ممكنة حتى في التجمعات السكنية المحاذية للمدن الكبيرة.

الكاتب جيلالي عمراني من مربّي منطقة القبائل الصغرى منذ عام 1991، يخبر أنّ بعض الأسر في السابق كانت تحرم طفلها من التعليم أصلاً وتسخّره للرعي. أما اليوم، فقد باتت تسهر على تعليمه نظراً لاتساع رقعة الوعي وإلزام القانون بذلك. القانون الجزائري يمنع عدم إلحاق الطفل البالغ من العمر ستّة أعوام بالمدرسة، مع توجيهه إلى الرعي في ساعات الفراغ. ويقول عمراني لـ"العربي الجديد" إنه لا يرى في الأمر ما يخلّ بحقوق الطفل ما دام على قيد الدراسة، خصوصاً أنّ رعي رأس أو رأسين بالقرب من البيت أخفّ بكثير من القيام بأعمال أخرى تتطلب جهداً ووقتاً كبيرَين. يضيف: "لاحظت أنّ هذا النوع من الأطفال متفوق على غيره، لأنه يُقبِل على الدراسة بنيّة مساعدة أسرته الفقيرة على تغيير أحوالها في المستقبل".
ويتابع أنّ "عودة الظاهرة إلى الواقع الجزائري تدلّ على روح التكيّف مع الوضع الاقتصادي الجديد. لكنني أحذّر من أن تصبح شاملة ومدخلاً لتسرّب الأطفال من المدارس".



في قرية عين النوق غرب محافظة برج بوعريريج (شرق)، يقول والد حسام (9 أعوام)، إنه اضطر إلى شراء عنزتين قبل عام حتى يضمن توفير الحليب ومشتقاته لأطفاله بشكل دائم وكذلك توفير بعض المال في حين يعاني من البطالة. يوضح: "بهذا أضمن تغذية صحية لصغاري. حليب الماعز طبيعي ومغذ، وأوفّر المال الذي كنت سأشتري به الحليب والسمن". يضيف: "كنت سأربح الكثير لو كنت أملك قطيعاً كبيراً، لكن ذلك يستدعي أن يتفرغ له طفلي بما يحرمه من الدراسة. وهذا ما لن أفعله".

محمد الأمين (10 أعوام) يقيم شرق الجزائر العاصمة، يخبر أنه فقد والده ولم تستطع والدته التي تعمل في مجال التنظيف أن توفّر له ولأخويه المتمدرسَين أيضاً كل ما يحتاجونه. لذا قبل أن يساعدها من خلال رعيه لعنزة حلوب في فترات الفراغ. يقول: "أقضي وقتاً ممتعاً مع عنزتي. أنا أوفر لها العشب وهي توفر لي الحليب. وهذا أنفع لي من إهدار وقت فراغي أمام التلفزيون أو فيسبوك كما يفعل زملائي الذين لم يتعلموا كيف يساعدون أسرهم".

عندما التقت "العربي الجديد" محمد، كان يقرأ كتاباً حمله معه. يشير إلى أنه ينجز معظم واجباته المدرسية في الحقل. بالنسبة إليه "الرعي في الحقل فسحة أتنفس من خلالها، إذ إنّ أمي تمنعني من مخالطة الأطفال الآخرين. هي ترى أن ذلك قد يجرّ علينا مشاكل نحن في غنى عنها".

بالقرب من محطة المسافرين الجديدة في مدينة باتنة (شرق) كان أسامة (13 عاماً) وأخته رقية (12 عاماً) يتبعان أربع عنزات ويستظهران دروسهما. يخبران أنّ القطيع ليس ملك أبيهما بل يعود إلى طبيبة تدفع له شهرياً مبلغاً من المال لقاء العناية بالقطيع الصغير وحلبه وإيصال الحليب إلى بيتها. ويشير أسامة إلى أنها "تسمح لنا بالاحتفاظ بحليب إحدى العنزات الأربع". يضيف: "أبي حارس ليلي في المدرسة التي ندرس فيها، وهو يتقاضى راتباً بسيطاً لا يغطي احتياجات أسرتنا الكبيرة".

من جهته، يبدو عبد القادر (15 عاماً) متململاً من الرعي في مدينة سعيدة (غرب)، لأنه يحرمه من أمور يحبها مثل لعب الكرة مع أترابه، فيما يجلب له معايرة البعض له في المدرسة. يقول: "تعرف كيف ينظر الجزائريون إلى مربّي البقر ناهيك عن راعيها. يسمونه بقّار ويرونه متخلفاً حتى وإن كان ثرياً". ويعترف عبد القادر أنه فرّ من البيت مرتين، احتجاجاً على إلزام أبيه له برعي البقرتَين في أوقات فراغه، "لكن في المرة الأخيرة تعرّضت لحادث خطير، وهو ما جعلني أعود وأرضى بالأمر الواقع". يضيف: "أنا متلهف إلى الالتحاق بالجامعة في مدينة بعيدة حتى أتخلص من الرعي نهائياً".

دلالات