فوضى الإفتاء في الجزائر

02 فبراير 2016
تكرس انسجام النسيج الاجتماعي للجزائريين (الأناضول)
+ الخط -

تنتمي الجزائر فقهياً، مثل بقية الدول المغاربية، وتجمع دول الساحل والصحراء الإفريقي، إلى المذهب المالكي، نسبة إلى الإمام مالك بن أنس، ما عدا أقلية إباضية تقيم في منطقة ميزاب الجزائرية على مشارف الصحراء. أما في مجال العقيدة، فهي سنّية ذات نزعة صوفية تضمّ أكثر من طريقة.

هذه الهوية الفقهية الموحدة، التي تتبنّاها مؤسسات الدولة نفسها، ساهمت في تكريس انسجام النسيج الاجتماعي للجزائريين، رغم انقسامه عرقياً، ما بين عرب وأفارقة وأمازيغ وأتراك وأندلسيين. ولعبت دوراً حاسماً في توحيد حركات المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، ثم في مرحلة البناء الوطني بعد الاستقلال عام 1962.

بعد الانسحاب الفرنسي، وفي ظل الفراغ في الكوادر، خصوصاً في مجال التعليم، استقدمت الحكومة الجزائرية آلاف الأساتذة والمدرّسين من المشرق العربي، كان معظمهم من التيارات الإسلامية المنبوذة من أنظمتها. جلب هؤلاء خصوصياتهم الفقهية معهم، وحاولوا زرعها في الجزائر، ليجد الشارع نفسه، أول مرة، أمام تعددية فقهية لم يعتد عليها. وبالتالي أمام مرجعيات مختلفة في الإفتاء.

هذا الواقع الجديد، خلق صراعاً بات معلناً، بين أنصار الفتاوى المحلية، بحجة أنّها نابعة من خصوصيات المجتمع، وملمّة بظروفه وحاجاته وطبيعة سلوكه وتفكيره، وأنصار الفتاوى التي تأتي من الخارج، بحجة أن الإسلام واحد، وأنّ العلم الشرعي الحقيقي موجود في أماكن أخرى.

يقول الباحث في التراث الإسلامي سعيد جاب الخير لـ"العربي الجديد"، إنّ الفتوى التي تنبع من خارج السياق الجزائري والموجهة إليه، تشبه الدواء الذي يوصف لغير المريض المعني به. لأنها، بحسبه، لا تراعي الخصوصيات، وتقفز على ملامحها، مما يؤسس لهوية اجتماعية جديدة، فتكون النتيجة صداماً واختلافاً، كانا منعدمين في ظل الوحدة الفقهية سابقاً.

يتابع جاب الخير أنّ رفضه للفتاوى المستوردة، لا يعني أنها ليست صالحة في بيئتها الأصلية، بل لأنها لا تملك القدرة على تفهّم البيئة الجديدة التي تصدّر إليها. يذكّر بخلافات يشهدها الشارع الجزائري، كان آخرها رفض بعض الأئمة المحسوبين على التيار السلفي الوقوف لتحية العلم الوطني، بحجة أنّ ذلك من "البدع المستحدثة".

في مسجد عبد الحميد بن باديس، وسط الجزائر العاصمة، تجتمع نخبة من الشباب السلفيين الذين يُعرفون محلياً بـ"الإخوة". يقول هؤلاء لـ"العربي الجديد": "العلم الشرعي الذي لا غبار عليه يأتي من بلاد الحرمين، لأنّ علماء تلك البلاد لا يُحرّمون ويُحلّون بحسب هواهم، مثلما يحدث مع علماء بلادنا الذين لا يرون حرجاً في الديمقراطية مثلًا، بينما هي حكم بغير ما أنزل الله. ولا ينصحون الحكومة بفرض الحجاب ومنع بيع الخمور وبث الموسيقى في الإذاعة والتلفزيون".

في المقابل، يبدي بعض الشباب خارج المسجد نفسه، إعجابهم بالشيخ شمس الدين الجزائري الذي بات نجماً تلفزيونياً، بطريقته المختلفة في الإفتاء. ذلك أنّه "يتحدث بلغة شعبية، ويتطرق إلى الواقع المعيش، بعيداً عن التكلف".

في هذا الإطار، يعلّق الكاتب عدة فلاحي المكلف السابق بالإعلام في وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، حول غياب فقهاء يفتون وفق المرجعية الفقهية للجزائريين، قائلاً إنّ ثمّة توجهاً إلى اعتماد ما يُسمى بالإفتاء الجماعي، من خلال لجان مختصة، تضم فقهاء وخبراء في مجالات مختلفة، منعاً للنظرة القاصرة والأحادية للمفتي المنفرد بالفتوى. وعن خلفية تجميد منصب مفتي الجمهورية، يقول فلاحي لـ"العربي الجديد": "في حديث خاص بيني وبين وزير الشؤون الدينية أبي عبد الله غلام الله، كشف أنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لا يرى أنّ ثمّة شخصية دينية مؤهلة لتولي هذا المنصب".

هذا الطرح يثير حفيظة رئيس "منتدى المواطنة" كمال قرور، ويعتبره طعناً في الثراء الجزائري في مجال العلوم الشرعية، كامتداد للنظرة الرسمية المستخفة بالكفاءات الوطنية: "ثمّة أمن قومي ديني ثقافي، لا يقلّ خطورة عن الأمن القومي العسكري. علينا أن ننتبه إلى ضرورة توفيره. لقد أصبحنا مخترقين فقهياً، ليس لأهداف دينية بريئة، بل لأغراض سياسية مفخخة".

ويشير قرور لـ"العربي الجديد" إلى أنّ الجزائريين كانوا يجتمعون على مفتي الجمهورية، حين كان هذا المنصب بعيداً عن التجاذبات السياسية، وكانت اختلافاتهم تتعلق بالأمزجة والميول لا بالانتماءات. يتساءل: "ما معنى أن تعطّل الحكومة منصب المفتي العام، في الوقت الذي تبني فيه مسجد الجزائر الأعظم بمليار دولار أميركي؟".

اقرأ أيضاً: جسور قسنطينة مشانق معلّقة
دلالات