جرعة زائدة كادت تثكلها

02 أكتوبر 2016
آخر تلك المرّات.. قبل أيام (نيكولا عصفوري/ فرانس برس)
+ الخط -

لم تظنّ أمّ هاني في يوم أنّها سوف تختبر تجربة مماثلة. منذ سنة، تحاول ستر "الجرصة". قدّمت وأبو هاني لوحيدهما أكثر من مستطاعهما، لكنّ "الظروف تعاكسه دائماً.. وولاد الحرام كتار!".

"الحقوني! الحقوني!". تخرج إلى باحة المنزل الأماميّة قبل أن تعود سريعاً إلى الداخل. تلقي نظرة على ولدها الممدّد على أرض غرفة نومه ساكناً. تخرج من جديد وتصيح.

يصل رئيف راكضاً. لم يعتد في يوم التدخّل في شؤون سكّان الحيّ، لكنّه لم يتمكّن من تجاهل صياح أمّ هاني. ترتجف وهي تدلّه على غرفة ابنها. يجثو بالقرب من الشاب الهامد، ويحاول تحسّس نبضه. تراقبه ولا تجرؤ على طرح أسئلتها. "هل مات؟" "ماذا لو مات؟" "كيف يموت؟" "كيف يرحل هكذا؟" "كيف؟"...

يقطع صوت رئيف أسئلتها تلك، طالباً منها ماءً. تكاد تتعثّر برجلَيها وهي تتّجه إلى المطبخ. بيدَين مرتجفتَين تحمل زجاجة وقدحاً، وتسرع. ما زال هاني فاقداً وعيه.. هامداً. كلّ المحاولات باءت بالفشل. يطلب منها الاتصال بالإسعاف. ترتبك. يصل أبو هاني. يهلع عند رؤية ولده. يحاول رئيف تهدئته، ثمّ يصرخ به ليتّصل بالإسعاف. يفعل.

في غرفة الطوارئ، يحاولون إنعاشه. لم ينجح المسعفون بذلك في طريقهم إلى المستشفى. يستعيد وعيه أخيراً. يطلب الطبيب التحدّث إلى الوالدَين، فيكثران من الأسئلة. "هل هي ذبحة قلبيّة يا دكتور؟" "ماذا حصل له يا دكتور؟" "هل وضعه خطير يا دكتور؟". فيجيب بأسئلة. وتبدأ الوالدة بسرد ما حصل بتفاصيله المملّة. يقاطعها محاولاً الحصول على إجابات محدّدة.

"أوفردوز"، يقول الطبيب. يقطّب الوالد حاجبَيه. يكرّر: "أوفردوز. جرعة زائدة من المخدّرات". صمت لثوانٍ. "لكنّه لا يتعاطى المخدّرات يا دكتور!".

"ابنكما نجا من جرعة زائدة. فلتشكرا الله". كان حازماً وهو يقولها. "أنصحكما بإبقائه هنا. ثمّة جناح خاص للعلاج من الإدمان". يستهجنان. "لكنّه ليس مدمناً! لو كان كذلك، لكنّا علمنا". ويطول النقاش بين الطرفَين. يشرح لهما أنّ لا مفرّ من العلاج، "هذا إذا أردتما استعادة ابنكما. من قال إنّه سوف ينجو في المرّة المقبلة؟".

يبدأ الوالد بالتحدّث عن "ولاد الحرام" الذين تسبّبوا في ذلك، قبل أن يتوجّه إلى الإدارة لتوقيع طلب الاستشفاء. منعهما الطبيب من التواصل مع هاني، الذي نُقِل من غرفة الطوارئ مباشرة إلى ذاك الجناح الخاص. وتغرق الوالدة في دموعها، ويغرق الوالد في تفكيره. "لا بدّ من اكتشاف من هم ولاد الحرام الذين جرّوه إلى هنا".




كأنّه الأمس القريب. تستعيد أمّ هاني تفاصيل ذلك اليوم، من دون أن تمسح أيّ دموع. تلك نضبت. وتكمل سردها...

أيام ثمانية قضاها هاني في المستشفى "لتنظيف جسمه"، قبل أن يجمعه الطبيب بوالدَيه ويجعله يقرّ أمامهما بما فعل ويتّفقوا جميعاً على خطوات العلاج المقبلة. حينها، تنفّسا الصعداء. لا بدّ من أن تكون المشكلة قد حُلّت بوعد من الشاب وبثلاثة آلاف دولار أميركي (فاتورة المستشفى) وببعض الأدوية. فهو يعاني كذلك من اضطراب في المزاج، مرتبط بتعاطي المخدّرات.

كانا كلّهما أمل بأنّ وحيدهما سوف يعود إلى رشده. هو أقسم بألا يقترب من تلك السموم ثانية. أقسم وبكى كثيراً. وهما صدّقاه. لا بدّ من أن يفعلا. لا بدّ من أن يشعر بثقتهما فيه. هذا يمنحه القوّة لتخطّي مشكلته. لطالما وثقا فيه. لطالما وضعا أملهما به. هو وحيدهما والظروف "تعاكسه" دائماً. لا يجد عملاً إلا ويخسره سريعاً، لا يتعرّف إلى "صديق" إلا ويغدر به، لا يمتلك شيئاً إلا ويضيع منه. غريب كيف أنّ الحياة تتآمر عليه!

مؤامرة. بالنسبة إليه، الجميع يتآمر عليه. والداه اللذان أدخلاه المصحّة، والجيران الذين لا يكفّون عن مراقبته، وأخواله، وعمومه... إنّه الارتياب. عارض من الأعراض التي يخلّفها تعاطي تلك "السموم"، يتفاقم لمّا يترافق مع الحالة المرضيّة التي يعاني منها هاني.

خلال المواجهة، أقسم الشاب بأنّه لم يبدأ بتعاطي المخدّرات إلا أخيراً، ووعد بالإقلاع عنها لأنّها "تضرّ. لا تضرّني أنا فحسب، بل تضرّكما كذلك". راح يمسح دموعه، متابعاً "اعذراني. كانت فترة طيش وانتهت. من الآن فصاعداً، أنا إنسان آخر. أنا إنسان نظيف!".

وثقا في كلامه. دموعه مسّتهما. وكانت بداية جديدة.

يرنّ الهاتف. الشاب محتجز لدى القوى الأمنيّة. ينطلق الوالدان سريعاً. "يبدو أنّ الظروف تعاكسه من جديد". تكاد سيارتهما الفرنسية القديمة تطير من فرط سرعتها. ألقيَ القبض عليه وهو يشتري "بضاعة" من أحد أزقّة بيروت. هذه المرّة الأولى التي يشتريها من ذلك المكان. لطالما اعتاد التوجّه إلى "المصدر" مباشرة. لم يكن يثق في "بضاعة السوق"، لكنّه كان "محشوراً" وقصد ذلك المروّج الصغير.

هناك، في مخفر الدرك حيث كان ينتظر تحويله إلى قسم الشرطة المختصّ، كان ينتظر. وصلت والدته، راح يقسم لها أنّ في الأمر سوء فهم. أمّا هي، فراحت تحاول إقناع الشرطيّ، فيما هاني يتعرّق. التعرّق كذلك من أعراض تعاطي تلك "السموم".

الإفلات من السجن ممكن، شريطة الخضوع إلى علاج في "مستشفى معتمد". وهذا ما كان. راح الوالد يجمع المال من فلان وعلتان. سبق وخسر كلّ مدّخراته، عندما اضطرّ إلى تسديد دين كبير سبق وراكمه هاني.

أربع مرّات، أُدخِل الشاب إلى المستشفى/ المصحّة خلال السنة الأخيرة. وعشرات المرّات، أقسم "أنا إنسان آخر. أنا إنسان نظيف"، مطالباً بفرصة جديدة. آخر تلك المرّات.. قبل أيام.