جدّتي.. والعسكر العثملّي

20 اغسطس 2014
استراحة أخيرة على تراب الوطن.. قبل اجتياز الحدود (Getty)
+ الخط -


تتكئ العجوز على عصا خشبيّة غليظة وتمضي متقدّمة في وعر دروب جبل سنجار أو شنكال كما يطلق عليه قومه، باتجاه إقليم كردستان. على رأسها منديل أبيض لا يخفي كلياً شيبها الذي يأتي مع تلك التجاعيد التي حفرتها عميقاً سنون ثمانون في وجهها، ليقصّ حكاية شقاء لا ينتهي.

وتذكّرني بجدّتي. هي أيضاً اعتادت وضع منديل أبيض على رأسها تغطّي به شعرها الأشيب. وهي أيضاً، كانت سنواتها الثمانون قد حفرت تجاعيداً عميقة في وجهها، تخبر الكثير.

لم تنتقص العقود التسعة من صلابة تلك المرأة العراقيّة الأيزيديّة التي تنزح مع آلاف من أبناء قومها هرباً من بطش تنظيم "الدولة الإسلاميّة". هناك في أرضها، تترك بيتاً كدّت حتى شيّدته وزرعاً اعتنت به حتى نضج. لكنها تأبى أن تنكسر، وتمضي مرفوعة الرأس. ويلمع في عينيها كبرياء جريح.. وقسوة.

جدّتي أيضاً كانت صلبة وجلودة. هي أيضاً بَنت مع جدّي بيت العائلة، غرفة بغرفة. كسّرت بيدَيها الحجارة لتصنع منها حصى البناء. وهناك، في ساحة البيت، بدلاً من حكايات الأطفال، كانت تسرد لحفيدتها الصغيرة قصص العسكر "العثملي" (العثماني) الذي كان يبطش وحرب "الأربعتش" (العالميّة الأولى) والجراد الذي كان "يقضي على الأخضر واليابس". فارتبط في ذهني الجراد بـ"العسكر العثملي". كأنه هو من أتى به.

في ذلك الزمن، في بدايات القرن العشرين، كانت الجدّة لا تزال طفلة. لكن ذاكرتها وثّقت تفاصيله. وتخبرني عن الأرمن الذين هجّرهم "العثملي" من أرضهم مرتكباً بحقهم أبشع المجازر، وعن الآشوريّين والكلدان والسريان الذين نفّذ بحقهم "السفّاح" نفسه مذابح سيفو. وتخبر كيف هجّروا من أرضهم وقطعوا الجبال الوعرة والأنهر، حتى بلغوا لبنان.

كأن التاريخ يعيد نفسه بعد مئة عام. فأهالي سهل نينوى في العراق من مسيحيّين وأيزيديّين يقطعون اليوم الجبال الوعرة هرباً من سفاحي القرن الجديد. ويصل بعضهم لبنان. وتوثّق نزوحَهم كاميرات المراسلين وذاكرة الشهود.

بحسب ما يفيد المؤرّخون، فإن الأكراد أو "الكورد" الأيزيديّين في سنجار وغيرها والذين لم تستطع الدولة العثمانيّة القضاء عليهم -على الرغم من تهجيرهم ومن الأضرار البالغة التي ألحقتها بهم-، هم أوّل من احتضن الأرمن والآشوريّين الهاربين من حملات الإبادة التي تعرّضوا لها من قبل تلك الدولة.

لم تذكر جدّتي سبي النساء. قد يكون العثملي لم يعمد إلى ذلك، أو قد يكون صغر سنّي منعها من إخباري. أما تلك العجوز الأيزيديّة التي تتشارك وجدّتي ملامح كثيرة، فقد عظمت معاناتها بعدما رأت بنات قومها يُسبَين ويُبَعن في أسواق الرقيق.

المساهمون