بيتر كاسيغ: نحيا معاً أو نموت معاً

25 نوفمبر 2014
والدا كاسيغ يتحدثان للإعلام بعد مقتله (Getty)
+ الخط -
خلال مشاركة كرم جمال في إحدى ورشات التدريب الإعلامي، التي تخللتها محاضرات في الإسعافات الأولية في مدينة غازي عنتاب التركية، تعرف إلى المسعف الأميركي بيتر كاسيغ (27 عاماً)، الذي يعمل في أحد فروع منظمة "سيرا" في هذه المنطقة، المعنية بتقديم مساعدات للاجئين السوريين. عرض أمامه بعض صور مدينته دير الزور التي دمرت بالكامل. فقد وثقت عدسته كل منزل دمرته القذائف في المدينة. صدمته الصور، وخصوصاً حين رأى جدران المستشفى الميداني ملطخة بالدماء. إلى أن قرر الذهاب إلى مدينة الرعب هذه.
أصدقاؤه في مدينة عنتاب حذروه من خطورة الذهاب إلى دير الزور، خشية اعتقاله أو قتله. ظن أن الأمر أقل تعقيداً، ويمكنه تجاوز جميع المشاكل بمجرد القول: "السلام عليكم". كانت مدينة دير الزور محاصرة من قبل قوات النظام من أربع جهات، ما أثر على الخدمات الطبية في المدينة. حال الناس كانت مأساوية. بقي فيها مستشفى ميداني واحد ونقطتان طبيتان. يشرف على العمليات ثلاثة أطباء بالإضافة إلى ثلاثة طلاب من كلية الطب، علماً أن كثيراً من المعدات الطبية والأدوية غير متوفرة.
جميع هذه الأمور جعلت كاسيغ مصراً على الذهاب إلى دير الزور. بعد أسبوعين على عودة كرم إلى مدينته، دخل المسعف الأميركي سورية عبر الحدود التركية ــ السورية بطريقة غير شرعية. استقبله كرم وعدد من عناصر الجيش الحر. بالرغم من أنه أراد رؤية دير الزور عن كثب، إلا أنه كان خائفاً. سمع الكثير عما يرتكب هناك. تجاوز خوفه بعض الشيء بسبب مرافقته من قبل بعض عناصر الجيش الحر. وصل إلى مدينة الدماء. على الفور، تناول "شماغاً" من أحد العناصر، وربطه حول عنقه.

بدا ثائراً ومحباً للجميع. كان حريصاً على إنقاذ المصابين ومداواة المرضى، ومساعدة الهيئات الإغاثية والطبية. صفاته الجميلة أكسبته أصدقاء كثر في دير الزور. أيضاً، عمل كاسيغ على إدخال المواد الإغاثية والطبية إلى دير الزور، وساهم في تقديم عدد من الدورات حول الإسعاف الأولي للناشطين الإعلاميين وأفراد الجيش الحر. عمل أيضاً في النقاط الطبية التي غالباً ما تقام بعد انتهاء أية معركة، فساعد في إنقاذ حياة العديد من الجرحى.
كان كاسيغ دائم الابتسام، عله يخفّف من آلام السوريين. كان أيضاً متفائلاً، يعد الأطفال بغد أفضل. الحرب ستنتهي. سيعودون إلى بيوتهم ومدارسهم. حفظ بعض الكلمات العربية، وتمكن بواسطتها من مصادقة الصغار. كانت هذه طريقته لمواساتهم. الأمل. هذا ما قاله الطبيب أنس الملا، الذي رافق كاسيغ في مدينة دير الزور، عنه.
يروي ملال لقاءه الأول بكاسيغ. يقول لـ"العربي الجديد": "كان شديد الحماسة لدى دخوله المستشفى الميداني في حي الشيخ ياسين، علماً أن القصف كان شديداً. سألته: ألست خائفاً من الموت أيها الأميركي؟ هل أنت مستعدّ للتعامل مع نظرات المتشددين؟ فأجاب: روحي ليست أغلى من أرواحكم. جوازات السفر لا تفرق بين الأرواح. لا أعترف إلا بالإنسان بغض النظر عن عرقه، دينه، طائفته، لونه، أو توجهه". قال أيضاً: "أنا في سورية لمساعدة الإنسان فقط".

كان ملال يظن أن صاحب الشعر الأشقر والجسد النحيل لن يصمد طويلاً في هذه الظروف المأساوية التي تعيشها المدينة. النظام لا يتوقف عن محاولة اقتحام المدينة، فيما دفع الحصار بالأهالي إلى أكل الأعشاب. لكن كاسيغ لم يتراجع. كان يقول دائماً إن "الحرب لا تهدأ. علينا أن نقاومها بحقيبة الإسعاف". يقترب من نقاط الاشتباكات ليسعف الجرحى. لا يكترث لأوامر المقاتلين له بالابتعاد. يردد العبارة نفسها: "نحيا معاً أو نموت معاً".
آخر لقاء لملال مع كاسيغ قبل ساعات من اعتقاله، كان في مدينة الرقة، التي كانت خاضعة لسيطرة تنظيم الدولة "داعش". طلب من كاسيغ مغادرة سورية. فحياته صارت مهددة. ردّ بابتسامته المعتادة: "أنا هنا من أجل رسالة إنسانية، ومستعد للموت من أجل تحقيقها". لدى مغادرته باتجاه دير الزور، تم اعتقاله عند أحد حواجز تنظيم داعش (عام 2013).
في 16 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أعلن "داعش" في شريط فيديو قتل كاسيغ. لكن ما زال كثيرون من الذين أسعفهم على قيد الحياة. يصعب على أهالي دير الزور نسيانه. أصلاً لا يريدون ذلك. ابتسامته كانت تمدهم بالأمل. تجدر الإشارة إلى أن منظمة "سيرا" التي أسسها بعد نهاية حرب العراق، تعمل على تقديم المساعدات الإغاثية والطبية لللاجئين السوريين في كل من تركيا ولبنان والأردن.
المساهمون