قد لا يشعر كثيرون منّا بأهمية بعض الأوراق والمستندات التي نحملها غالباً في حقائبنا، مثل الهوية ودفتر العائلة وشهادة القيادة وجواز السفر، إلا أنّ هذه الأوراق في الواقع هي التي تثبت الوجود القانوني للإنسان ومن دونها يُحرَم من حقوقه المدنية والسياسية. فهو يفقد الاعتراف بوجوده في حال عدم توفّرها، كما هي حال ملايين السوريين الذين يعيشون في شمال غربي سورية والذين يحملون مستندات غير معترف بها، ولا أحد يعلم ما هو مصيرهم في المستقبل.
وكانت سلطات الأمر الواقع عبر المجالس المحلية، قد عمدت إلى إصدار تلك الوثائق، كلّ مجلس بحسب مناطق سيطرته، بهدف حلّ المشكلة جزئياً، علماً أنّ تلك الوثائق المعترف بها محلياً لا جدوى منها لدى النظام السوري ولا دول العالم كافة التي ما زالت تعترف بالوثائق الصادرة عن النظام. بالتالي فإنّ المعاملات المنجزة محلياً لا جدوى حقيقية منها، مهما كان نوعها من إثبات للملكيات أو أحوال شخصية أو غيرهما.
وقد لجأت سلطات الأمر الواقع إلى ذلك نتيجة معاناة كثيرين من سكان محافظة إدلب وريف حلب الشمالي، حيث اجتمع إلى جانب السكان الأصليين مئات آلاف السوريين النازحين، إذ هُجّروا من جرّاء الأعمال الحربية التي شنها النظام السوري على مناطقهم السكنية في مختلف المناطق السورية. يُضاف إلى هؤلاء السوريون الذي هُجّروا من جرّاء عمليات التسوية التي تمّت في مناطق خفض التصعيد في عام 2018 وما بعدها، في وقت كان النظام قد عطّل فيه كل المؤسسات الرسمية في تلك المناطق الخاصة ولم يعد يمنح الأوراق الرسمية، من ضمن سياسة العقاب الجماعي بسبب الحراك الذي سُجّل هناك وكان مناهضاً للنظام. هكذا وجد هؤلاء في معظمهم، إلى جانب أبناء الأجيال الجديدة، أنفسهم من دون أوراق رسمية، سواء شهادة الميلاد أو الهوية أو دفتر العائلة أو جواز السفر، فكان لا بدّ من إيجاد بديل.
لا يخفي يوسف منذر قلقه على مستقبل أبنائه الثلاثة، ويخبر "العربي الجديد": "نزحت قبل سنوات تحت القصف إلى ريف إدلب، ولم أحمل معي إلا الثياب التي على جسدي. ولأنّ الحياة لا بدّ من أن تستمر، بدأت كلّ شيء من جديد. لكنّ أكبر التحديات كان عدم امتلاكي أيّ وثيقة تثبت هويتي، الأمر الذي عرّضني إلى كثير من المشكلات على الحواجز الأمنية في إدلب، بالإضافة إلى عرقلة استئجار منزل مثلاً أو توظيف". يضيف منذر أنّ "في البداية زُوّدت ببطاقة تعريف بسيطة، وكانت المشكلة الكبرى عندما تزوّجت في عام 2017. فكلّ ما يثبت عقد قراني هو شاهدان وشيخ، من دون توفّر أيّ وثيقة. ومنذ ذلك الحين، راح يشغلني موضوع الحصول على دفتر عائلي أو هوية وكذلك تسجيل الأولاد". ويتابع منذر: "لم أستطع تسجيل طفلي الأوّل حتى منتصف عام 2018، بعد إنشاء سجلّ مدني خاص بالمهجّرين. وقد تطلب مني الأمر الذهاب إلى مختار الحيّ مع شاهدين، وإحضار شهادة ولادة مختومة من قبل القابلة وتقديمها إلى أمانة المهجّرين لتثبيتها في السجلات المدنية وإدراجها على دفتر العائلة الذي منحتني إياه الدائرة ذاتها".
ويشير إلى أنّه "في الوقت الذي حصلت فيه على دفتر عائلة وشهادة ميلاد، لم أكن أملك هوية كذلك الأمر بالنسبة إلى زوجتي. لكنّ الأوراق المتوفّرة معنا اليوم لا يمكن استخدامها إلا في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، كذلك لا تسمح لنا بالسفر الذي أظنّ اليوم أنّه الطريقة الوحيدة لإنقاذ عائلتي من الوضع المعيشي السيئ والوضع الأمني غير المستقرّ".
لا جوازات سفر
من جهته، يقول محمد شكيب الخالد النازح المقيم في إدلب لـ"العربي الجديد": "اليوم، حكومة الإنقاذ في إدلب والحكومة المؤقتة في ريف حلب تقدّمان كلّ الوثائق الشخصية من شهادات ميلاد وعقود زواج ودفاتر عائلة وهويات وإخراجات قيد، لكنّها كلها محصورة بالاستخدام المحلي. أمّا جواز السفر، فلا تصدره أيّ من الحكومتَين، إذ لم يُعترَف بهما دولياً، في حين يُعَدّ جواز السفر من أبرز ما يحتاجه الشباب الذين يرغبون في تأمين مستقبلهم والخروج من المنطقة لإكمال دراستهم على سبيل المثال، وكذلك تحتاجه النساء المتزوجات اللواتي يرغبنَ في الالتحاق بأزواجهنّ في بلدان اللجوء".
يضيف الخالد: "حتى الشهادات الدراسية ما قبل الجامعية والجامعية غير معترف بها إلا محلياً، على الرغم من أنّ ثمّة اتفاقات قائمة حالياً مع عدد من الجامعات الخاصة في الخارج لإجراء دراسات عليا في بعض الاختصاصات. لكنّ المشكلة التي تبرز هنا هي عدم امتلاك الطلاب جوازات سفر، الأمر الذي قد يضطرهم إلى السفر بطريقة غير نظامية، فيجتازون الحدود في هجرة سرية مع مخاطرة كبيرة. فكثر هم الذين فقدوا حياتهم من جرّاء مثل تلك المحاولات".
ويحكي الخالد عن "مشكلة أخرى نعاني منها وهي التملك. فعلى الرغم من أنّ الحكومة المحلية تصدّق عقود البيع والشراء وتمنح الصكوك بذلك، فإنّ تلك العقود غير معترف بها لا خارج سورية ولا في مناطق النظام. في المقابل، فإنّ الأوراق الصادرة عن سلطات النظام، لا يُعترف بها من قبل حكومة الإنقاذ. على سبيل المثال، إذا كان البائع موجوداً في مناطق النظام والشاري في إدلب، لا يمكن إتمام عملية البيع نظراً إلى عدم اعتراف الطرفَين بالأوراق الصادرة من كلا الجهتَين، كأنّنا نعيش في دولتَين". ويلفت إلى أنّ "تكاليف استخراج الأوراق رسمية من النظام باهظة جداً. وثمّة من طلب نحو أربعة ألاف دولار أميركي لاستخراج جواز سفر. ومن الممكن أن تتراوح تكلفة تصديق بعض الأوراق ما بين 300 و400 دولار".
والحلول في مناطق إدلب تكون في أغلب الأحيان آنية. فمن لا يملك بطاقة هوية، عليه التوجّه إلى دائرة النفوس والحصول على إخراج قيد مع صورة يحلّ محلّ الهوية الشخصية. ويقول إبراهيم عربو من ريف إدلب الشمالي لـ"العربي الجديد"، إنّه "في بعض الأحيان، يستوجب استخراج وثيقة إثبات الشخصية التوجّه إلى المجلس المحلي مع شاهدَين، فيحصل المرء بالتالي على ورقة تعريف من المجلس. ومثل هذه الوثائق تُستخدَم في معاملات الزواج وللاستحصال على دفتر العائلة المعتمد في تسجيل الأطفال في المدارس".
ويبدو أنّ "حكومة الإنقاذ" التابعة لـ"هيئة تحرير الشام" المسيطرة على إدلب، تعتزم إصدار بطاقات شخصية للمقيمين في المنطقة، بحسب ما يفيد الناشط أحمد الأطرش في ريف إدلب الجنوبي. ويقول لـ"العربي الجديد" إنّ "الهوية أمر ضروري جداً بالنسبة إلى المرء، في حين أنّ البطاقات الشخصية لم تصدر حتى الآن. لكن بحسب مصادر مطلعة، فإنّ العمل جارٍ عليها". يضيف الأطرش: "أمّا في مناطق درع الفرات، فالاستحصال على الهوية الشخصية أمر متاح وبكل بساطة في كل مجلس محلي. وثمّة أشخاص من إدلب يذهبون إلى أعزاز أو عفرين لاستخراج هويات شخصية، علماً أنّ الهوية ليست ضرورية في الوقت الحالي في ما يتعلق بالسفر. وثمّة بديل عنها من قبيل إخراج القيد. وفي ما يتعلق بدفتر العائلة، فثمّة دفاتر تصدر هنا عن أمانة السجل المدني، تُعبّأ وفق البيانات المتاحة. وأنا ذهبت قبل فترة واستخرجت دفتر عائلة لي، في حين أنّ استخراج جواز سفر أمر غير متوفر في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، وهذه من المعضلات الكبرى بالنسبة إلى الشباب".
وفي هذا الإطار، يقول رئيس المجلس المحلي في مدينة أريحا، أحمد فاتح سعدو، لـ"العربي الجديد" إنّ "المقيمين في إدلب لديهم جميعهم ما يثبت هويتهم. فمن لا يحمل هوية من سلطات النظام، لديه قيد نفوس مع صورة ومختوم من قبل المختار. وإذا كان المرء من النازحين، فبإمكانه الحصول على الوثيقة ذاتها من دائرة المهجرّين". ويلفت سعدو إلى أنّ "هذه الوثائق تسمح للمواطن بإجراء المعاملات الأساسية في مناطق غير خاضعة لسيطرة النظام، تتعلّق بالزواج وتسجيل الأطفال في المدارس ومعاملات البيع والشراء وغيرها من التراخيص الإدارية. لكنّ جواز السفر يبقى غير مؤمّن".
المعاناة نفسها
لا تختلف معاناة السكان في مناطق سيطرة الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا والمشرفة على إدارتها "الحكومة المؤقتة" التابعة لـ"الائتلاف الوطني المعارض". فعلى الرغم من منح المجالس المحلية وثائق تحت إشراف الأتراك وباللغتَين التركية والعربية، فإنّ تلك الوثائق غير معترف بها خارج ما يسمى بـ"المناطق المحررة"، بحسب ما يقول الناشط الإعلامي في ريف حلب علي الحلبي لـ"العربي الجديد".
يضيف الحلبي أنّ "المجالس المحلية طرحت هوية جديدة وبيان عائلي تركي مع ترجمة إلى العربية وشهادة قيادة، بالإضافة إلى معاملة تثبيت زواج جديدة لمن فقد أو من لم يكن يملك دفتر عائلة"، لافتاً إلى أنّ "لا وثيقة خاصة بالسفر سوى بطاقة التاجر التي تخوّل حاملها دخول تركيا فقط. لكنّ الحصول عليها مكلف جداً". ويتابع الحلبي أنّه "تمّ إصدار هويات للأطفال لدخول المدارس، وأُنشئت دوائر لتثبيت عمليات البيع والشراء في البلدية التابعة للمجلس المحلي، ومكاتب عقارات لتثبيت ملكية العقارات. ولملكية السيارات، ثمّة مكاتب لتسجيل الآليات ولنقل الملكية. لكنّ هذه الوثائق غير معترف بها في تركيا".
وفي سياق متصل، يحذّر الناشط عمر الشمالي المقيم في جرابلس بريف حلب من أنّه "في ظل الآليات المعتمدة لاستخراج الوثائق الرسمية، ثمّة مخاطر من وثائق مزوّرة دائماً، وإن كان استخراج الوثائق قد حدّ من ذلك نسبياً".
يضيف الشمالي لـ"العربي الجديد" أنّه "بعد سنوات من شبه الضياع، خصوصاً للمولودين ابتداءً من عام 2011 الذين لم يحصلوا على هويات من النظام أو الذين ضاعت هوياتهم ووثائقهم في خلال القصف والتهجير، كان لا بدّ من إيجاد صيغة تعريفية للمواطنين في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام. فكان البديل بطاقة تعريف تُستخرَج من المجالس المحلية في مناطق ما يُعرف بدرع الفرات وغصن الزيتون". ويتابع أنّ "بطاقة التعريف ذات النموذج الموحّد والمستخرجة من المجالس المحلية حدّت بشكل كبير من عمليات التزوير، لكنّه لا يمكن القضاء على ذلك بكل تأكيد".
من جهته، يقول المحامي أبو حسن عليطو المقيم في حلب لـ"العربي الجديد": "بداية، بالنسبة إلى الأوراق الثبوتية، فقد أصبحت اليوم من متمّمات الشخصية الإنسانية، ومن غير المعقول في هذه الأيام أن تجد إنساناً من دون وثائق شخصية، فتلك المستندات تحفظ الحقوق".
يضيف عليطو أنّ "الأوراق المتاحة تُعَدّ كافية وسارية ومنتجة لآثارها في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام. لكن للأسف، لا اعتراف بها في الخارج"، موضحاً أنّ "من المشكلات الأكثر تعقيداً التي واجهت السوريين هي الوثائق الشخصية، ولم يتمكّن أيّ طرف من إيجاد حلّ لهذه المشكلة. يُضاف إلى ذلك انتشار الوثائق المزورة، وقضية زيجات السوريات من أجانب لا يحملون أوراقاً ثبوتية، فنتج بالتالي عن تلك الزيجات أطفال من دون إثبات نسب". ويتابع عليطو أنّه "إلى جانب ذلك، تأتي مشكلة انتشار الشهادات العلمية المزورة وصكوك الملكية مزورة، ونحن، للأسف، لا نملك الأجهزة ولا الإمكانيات لقمع ظاهرة التزوير في مناطقنا".