لطالما لفتت هجرة الطيور فضول الإنسان، وحيرت العلماء حول كيفية تطور الهجرة وكيفية الحفاظ على هذه الطيور في الطبيعة، إذ يبدو عبور مساحات شاسعة من الصحراء أو المحيط المفتوح محفوفاً بالمخاطر بشكل لا يصدق. لذلك، من المؤكد أن العديد من الطيور يجب أن تدفع من حياتها ثمن محاولة الهجرة. ولكن كان من الصعب للغاية دراسة أين ومتى وكيف تموت الطيور المهاجرة، إلى أن جعلت التطورات التكنولوجية الحديثة من الممكن بشكل متزايد تتبع تحركات ومصير الطيور المهاجرة.
من خلال استخدام التقنيات الحديثة للتتبع عن بُعد، يمكن الآن متابعة تحركات الطيور بدقة شديدة. ولا تمضي سنة من دون أن أُبلّغ أن طائر غرناق أو لقلاقاً أو نسراً أو عقاباً قد فقد في منطقة محددة ولم يتحرك من مكانه منذ ثلاثة أو أربعة أيام، مع تحديد الموقع، فأذهب أو أخبر أحد أصدقائي الذين يقطنون بالقرب من النقطة التي فقد فيها الطائر، ونجد أنه نفق نتيجة صعقة كهربائية أو إطلاق النار عليه من أحد الصيادين.
في دراسة جديدة تنشر قريباً في مجلة علم البيئة الحيوانية، تناول 38 باحثاً من 12 بلداً ينتمون إلى مراكز أبحاث ومنظمات عالمية الشوحة المصرية أو النسر المصري المهدد بالانقراض على المستوى العالمي أثناء هجرته السنوية بين أماكن تكاثره وأماكن إشتائه. هذا النسر المصري هو نوع غامض موجود في المناطق القاحلة في المقام الأول في جنوب أوروبا وجنوب آسيا وأفريقيا، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبشر، ويجاورهم حيث يبحث عن الطعام. لسوء حظ هذا النسر، نجد في العقود الأخيرة أن أعداده تناقصت بسرعة واختفى من مناطق عديدة إلى درجة صُنّف معها طائراً مهدداً عالمياً بالانقراض.
كانت نتيجة التعاون بين الدول التي يوجد فيها والباحثين فيها منذ بدايات القرن الواحد والعشرين باهرة، بعد تثبيت أجهزة إرسال على ظهور النسور المصرية من أجل تتبع مسيرتها أثناء الهجرة. وفي نهاية هذه الدراسة، تم تجميع وتحليل بيانات تتبع الأقمار الصناعية لـ 220 نسراً كانت تحركاتها قد شملت منطقة امتدت من البرتغال في الغرب إلى إيران في الشرق ومن روسيا في الشمال إلى كينيا في الجنوب، أو ما يقرب من 70 في المائة من منطقة التوزيع العالمي لنوع النسر المصري. أما العينات التي درست، فشملت نحو 30 في المائة من عدد أفراد نوع النسر المصري. وساعد تتبع الأفراد المزودين بأجهزة التتبع في معرفة مصير الكثير من الذين نفقوا أو جرحوا وعلى وجه التحديد أين ومتى، وتم تصويرهم يعبرون لبنان بسلام، أو تطلق عليهم النيران في مناطق مختلفة.
أحد هذه النسور مر بسلام فوق لبنان وأمضى ليلته بالقرب من بيروت واسمه "إززي"، وآخر عثر عليه بعد اتصالات من بلغاريا وهو جريح في منطقة شمالية فتم إحضاره إلى مركز جمعية المحافظة على الطبيعة في لبنان، وأطلق عليه اسم "أناهيتا" وتمت معالجته بإشراف طبيب بيطري. كما انتشلت بعض تلك النافقة أثناء هجرتها في عدة دول، منها سورية ومصر وتشاد ونيجيريا وموريتانيا ومالي والسودان، بعد توقف إشارة الإرسال أو انحرافها عن وجهة سيرها.
وأظهرت الدراسة أن الطيور البالغة تتمتع بنسبة بقاء على الحياة أعلى في أماكن استقرارها خلال فصل التفريخ أو في فصل الشتاء من بقائها على قيد الحياة أثناء هجرتها بين المكانين، الأمر الذي يبين أنها تدفع ضريبة عبور غالية. كما تبين أن النسور المصرية التي نشأت في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط هي أقل تعرضاً للحوادث في مشتاها بأفريقيا من تعرضها في بلاد نشأتها، على عكس النسور التي نشأت في أوروبا الغربية والتي تعامل بشكل أفضل في الغرب، وربما أيضاً لأنها لا تنهك من عبور البحر فيكفيها عبور مضيق جبل طارق. أما ارتفاع معدل النفوق فكان أعلى بين اليافعين فوق البحر المتوسط. ومع ذلك، فإن ما يقارب من نصف النفوق يرتبط بالإنسان، كالصعق بالكهرباء أو الاصطدام بالبنية التحتية للطاقة، والاضطهاد المباشر من قبل البشر (مثل إطلاق النار عليهم أو الإمساك بهم باستعمال الشراك)، والتسمم.
ستكون معالجة هذه التهديدات التي يسببها الإنسان ضرورية للحفاظ على النسر المصري والعديد من الأنواع المهاجرة الأخرى، ويقع عبء معالجة هذه التهديدات على جميع سلطات البلدان الواقعة على طول مسارات هجرة الطيور.
*اختصاصي في علم الطيور البريّة