مكارثية جديدة... جامعات أميركية تطارد داعمي فلسطين

06 ديسمبر 2023
اعتصم طلاب جامعة هارفارد ضد المجازر في غزة (جوزيف بريزيوسو/فرانس برس)
+ الخط -

تشهد جامعات أميركية مناخاً من التخويف والملاحقات والاستهداف للطلاب والأساتذة الداعمين للقضية الفلسطينية، أو من يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة، وصولاً إلى التشهير ببعض الطلاب من قبل منظمات يمينية، كما حدث في جامعة هارفارد، من دون أن يكون هناك أي تحرك جدي لحماية الطلاب، وحقهم في حرية التعبير.
ويذكّر مناخ الترهيب القائم في حدته وشراسته بـ"الحقبة المكارثية"، حين أطلق السيناتور جوزيف مكارثي، حملة ملاحقة الشيوعيين ومن يشتبه بميولهم اليسارية، والتي أدت إلى فقد كثيرين لوظائفهم، قبل أن يتبين أن معظم التهم كانت غير حقيقية.
في أحدث الوقائع، قامت جامعة كولومبيا في نيويورك، بتعليق نشاط جمعيتين طلابيتين هما "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" و"أصوات يهودية من أجل السلام" حتى نهاية فصل الخريف الحالي، وذلك بعدما نظمتا احتجاجات طلابية تطالب بوقف إطلاق النار ووقف الحرب على غزة، وادعت الإدارة أن الجمعيتين انتهكتا بشكل متكرر قواعدها من خلال تنظيم احتجاجات غير مصرح بها.
وأوقفت إدارة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عدداً من الطلاب بعد تنظيم احتجاجات واعتصامات ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، كما عاقبت جامعة براون قرابة عشرين طالباً احتجوا ضد الحرب وطالبوا بوقفها. وفي جامعة هارفارد، وجامعة نيويورك، وصلت محاولات الإسكات إلى تلويح عدد من الأثرياء بوقف تبرعاتهم، وطالب أحدهم، وهو بيل أكمان، بنشر أسماء الطلاب الذين وقعوا على عريضة صدرت باسم أكثر من ثلاثين مجموعة طلابية في جامعة هارفارد، كي يتم وضعهم على قوائم سوداء تمنع توظيفهم.
وحمّلت العريضة الطلابية الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية عن العنف القائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأشارت إلى أن عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس "لم تأت من فراغ"، مذكرة باحتلال فلسطين المتواصل منذ خمسة وسبعين عاماً.
يصف أحد طلاب الدراسات العليا في جامعة نيويورك، والذي طلب عدم ذكر اسمه، الوضع بأنه غير مسبوق، موضحاً لـ"العربي الجديد": "يشعر كثيرون بالغضب والظلم، وهناك نشاطات لم أر مثلها منذ أن بدأت الدراسة في الجامعة قبل خمس سنوات. ندرك أن أموالنا وضرائبنا تذهب لدعم إسرائيل في تمويل الإبادة، ومن ناحية ثانية يشعر كثير من المعارضين للحرب بعدم الأمان. رأينا استهدافاً وتشهيراً بطلاب في جامعتي هارفارد وكولومبيا. وكثيرون لا يريدون أن تظهر أسماؤهم في تلك القوائم".

طلاب يتهمون جامعة نيويورك بتمويل العدوان على غزة (أندرو ليشتنستين/Getty)
طلاب يتهمون جامعة نيويورك بتمويل حرب غزة (أندرو ليشتنستين/Getty)

في أواخر الستينيات، شهدت الجامعات الأميركية جدلاً واسعاً حول حق الطلاب والكوادر الأكاديمية في التعبير عن مواقفهم المناهضة لحرب أميركا الاستعمارية في فيتنام، وكذلك حركة الحقوق المدنية للسود، وأصدرت جامعة شيكاغو في العام 1967 تقرير "لجنة كالفن"، وسط احتجاجات غاضبة ضد حرب فيتنام، و"أعمال شغب" حول حركة الحقوق المدنية، ومن بين أبرز ما أكده التقرير ضرورة التزام الجامعات بالحرية الأكاديمية لأعضاء هيئة التدريس والطلاب في مواجهة القمع من الكيانات الداخلية أو الخارجية في ما يخص العمل السياسي والاجتماعي، على أن تبقى ملتزمة بالحياد كمؤسسة.
لكن هذا "الحياد" يختفي مع رفض كثير من الجامعات وقف استثماراتها في شركات الوقود الأحفوري، أو شركات السلاح، أو الاستثمار في شركات لها فروع في المستوطنات الإسرائيلية. وليس الجدل الحاصل حالياً داخل الجامعات الأميركية بمنأى عن السياق التاريخي الاستعماري، إذ لا ينظر إلى الولايات المتحدة كطرف محايد بسبب تمويلها العسكري لإسرائيل، وحمايتها دوليا في منظمات الأمم المتحدة عن طريق استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن.

توقيف عدد من طلاب معهد ماساشوستس الداعمين لفلسطين (جيسيكا رينالدي/Getty)
توقيف طلاب من معهد ماساتشوستس بعد دعمهم لفلسطين (جيسيكا رينالدي/Getty)

لا تقتصر حملات الترهيب على نشر أسماء الطلاب، أو وضعهم ضمن قوائم سوداء للحيلولة دون توظيفهم، بل تمتد إلى اتهامهم بمعاداة السامية، ومن بين هؤلاء طالب يهودي معادٍ للسياسات الإسرائيلية، تم وضع صورته على سيارة متوقفة أمام مكان عمل والده.
ومن الصعب معرفة من يمول هذه الحملات لمقاضاتهم أو ملاحقتهم، وحتى لو عرف ذلك، فإن التكاليف القضائية باهظة، ما يمنع الطلاب من اتخاذ مسار إقامة دعاوى تشهير، كما أن المؤسسات غير الربحية التي تعمل على مساعدة الطلاب غير قادرة على تولي هذا العدد الهائل من الطلبات التي تصلها.
ولسنوات، قامت منظمة يمينية متطرفة بنشر صور وأسماء الطلاب والأساتذة الداعمين للقضية الفلسطينية، أو مقاطعة الاحتلال، والتحريض ضدهم بطرق مختلفة من بينها نشر قائمة بأسماء أساتذة وقعوا على عرائض تدعم المقاطعة، واتهامهم بـ "معاداة السامية"، وهناك موقع إلكتروني باسم "كناري ماشين" ينشر أسماء وصور مئات من طلاب الجامعات الأميركية، ويتهمهم بأنهم معادون للسامية، وكارهون لأميركا، وكثيراً ما يوضع هؤلاء على قوائم سوداء تهدد مستقبلهم المهني، وقد تنشر عناوينهم أو أماكن عملهم، ما يهدد أمنهم الشخصي.

يتزايد اهتمام الطلاب الأميركيين بالقضية الفلسطينية (فريدريك براون/فرانس برس)
يتزايد اهتمام الطلاب الأميركيين بالقضية الفلسطينية (فريدريك براون/فرانس برس)

وليست ملاحقة الطلاب والأساتذة الداعمين لفلسطين جديدة، فهناك تاريخ طويل لذلك في الجامعات وفي الإعلام ودور النشر والفنون، وقد وصلت الملاحقات ضد الأكاديمي الفلسطيني إدوارد سعيد، إلى درجة نعته بـ "بروفيسور الإرهاب" بعد صدور مذكراته "خارج المكان"، ومحاربة أكاديميين آخرين من أبرزهم الأميركي اليهودي نورمان فنكيلستين، والأميركي أردني الأصل ستيفن سلايطة، وقد خسر كلاهما وظيفته بسبب مواقفهما الداعمة للقضية الفلسطينية، إضافة إلى الحملة ضد الأكاديمي في جامعة كولومبيا جوزيف مسعد.
وتزايدت حدة الملاحقات في الجامعات الأميركية في ظل انتشار "حركة المقاطعة" بين الشباب، بمن فيهم اليهود. ويرى أحد الطلاب الذين تحدثوا إلى "العربي الجديد"، أن إدارات الجامعات لا تقدم أية مساعدة للطلاب، وتتركهم وحدهم للدفاع عن حقهم في التعبير، بل إن بعضها يقوم بإجراءات عقابية ضدهم. ويضيف: "يخلق هذا شرخاً عميقاً بين الطلاب والأساتذة، وبين إدارة الجامعة التي تنظر إلى مصالحها الضيقة. رغم كل المخاطر، إلا أن الكثير من الطلاب مصرون على استمرار نشاطهم. ما نخاطر به لا يقارن بما يعيشه الفلسطينيون، وأهل غزة تحديداً. لذا نحاول وضع مخاوفنا جانباً، والاستمرار في نضالنا لدعم نضالهم من أجل إنهاء الاستعمار، ووقف نظام الفصل العنصري".
يتابع الطالب: "أولويتنا هي وقف إطلاق النار، والضغط على الحكومة الأميركية لوقف دعم الجيش الإسرائيلي. في العام 2018، تمكن اتحاد طلاب جامعة نيويورك من تمرير قرار يطالب الجامعة بوقف استثماراتها في الشركات التي تستثمر بالمستوطنات الإسرائيلية أو تعمل فيها. أعتقد أن التصعيد غير المسبوق في استهداف الطلاب يأتي في وقت أصبح واضحاً أن إسرائيل تمارس جرائم إبادة، وأنها دولة فصل عنصري واستعمار استيطاني، ونلاحظ أن الرأي العام بدأ يتغير، وتشير استطلاعات الرأي إلى أن قسماً كبيراً من الأميركيين يدعم وقف إطلاق النار، وبعض المؤسسات الصهيونية التي تدعي مكافحة اللاسامية تحارب بالأساس منتقدي سياسات إسرائيل، ومن بينهم اليهود المعادون للسياسات الاستعمارية ضد الفلسطينيين".

ويوضح الطالب: "كثير من الشباب الذين يقودون النضال ينتمون إلى الأقليات التي عرفت اضطهاداً وتمييزاً تاريخياً، وكجزء من محاولة دعم ومساعدة الطلاب، بدأت تتشكل أطر واتحادات، من بينها (أساتذة من أجل العدالة في فلسطين)، وجزء من عملها هو مساندة الطلاب، وزيادة الضغط على إدارات الجامعات".
وفي بحث سابق، أشار الباحث ستيفن سلايطة، إلى إشكالية النظام "النيو ليبرالي" الذي أصبح يتعامل مع الجامعات باعتبار أنها "شركة" تعرض خدماتها على "زبائنها" من الطلاب. الأمر الذي يجعل الجامعات رهينة نفوذ المتبرعين وتدخلاتهم، ما يشكل تهديداً جدياً لحرية التعبير الأكاديمية، وصولاً إلى محاولة التأثير على فحوى ما يدرسه الأساتذة، خاصة ما يتعلق بقضايا سياسية.
ولم يعد هذا النهج يقتصر على الجامعات الخاصة، بل تسرب إلى الجامعات الحكومية، إضافة إلى ما تشهده الجامعات خلال العقود الأخيرة من تقليص عدد الأساتذة المثبتين، ما يحد من العمل النقابي، ويبقي الأساتذة في خوف دائم من إمكان عدم تجديد العقود بسبب مواقفهم السياسية، أو عدم رضا المانحين عنهم. لتصبح الجامعات مؤسسات تابعة بدلاً من أن تكون محركاً للفكر النقدي.

المساهمون