يتوزع طلاب التعليم العالي الفلسطينيون تبعاً لخارطة وجودهم على أرضهم وفي دول الشتات القريبة والبعيدة. ولم تعمد وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (أونروا) منذ إنشائها قبل 71 عاماً، إلى تأسيس جامعة تجمع الطلبة الفلسطينيين، وتقدم لهم التعليم في التخصصات المتنوعة، وبالتالي تخفف عن كواهل ذويهم تكاليف هذا المرحلة مع ما تتطلبه من أقساط ونفقات ضرورية. وهكذا يواجه الفلسطينيون الشباب مشاكل لا تقف عند حدود ضآلة وزن القطاع العام الرسمي الحكومي في الدول المضيفة، وحصولهم على حصة متواضعة في عدد المقاعد المتاحة لهم في مؤسسات التعليم العالي، بل تتعداه إلى جملة الأوضاع المعيشية والاجتماعية التي تجعل الفلسطيني من بين الفئات الأشد فقراً في المجتمعات المضيفة.
أما المنح التي تديرها "الأونروا" وتحصل على اعتماداتها من بعض الدول الأجنبية والعربية فهي محدودة العدد، ولا تغطي التوجه والإقبال على ارتياد مؤسسات التعليم العالي. أما المنح التي تقدمها بعض الصناديق والجمعيات كجمعية الشهيد القائد ياسر عرفات ومحمود عباس وغيرها فلم تتجاوز في أحسن الأحوال المئات وضمن شروط قاسية بينما الحاجة هي للألوف. بالطبع، هناك عائلات فلسطينية ميسورة تستطيع أن تنفق على تعليم أبنائها وبناتها في أرقى جامعات المنطقة والعالم، ولكن نسبتها محدودة بالمقارنة مع حجم العائلات الفقيرة وشبه المعدمة في المخيمات والتجمعات. لذلك، يلجأ معظم الطلاب الفلسطينيين إلى الجامعات الأقل كلفة. كما أن قسماً منهم يعمد إلى تأخير دراستهم لتدبير الأقساط المطلوبة، ما يقود إلى تقطع في حصولهم على المعارف والمهارات، وبالتالي تأخير تخرجهم.
أما أولئك الذين يعجزون عن متابعة مسيرتهم، فيعمدون إلى ممارسة مهن هامشية في المخيمات كفتح مقاهي إنترنت وما شابه من أعمال هامشية محدودة الدخل. هذا إذا لم يعانوا الانحرافات التي تطيح بمستقبلهم (مخدرات وتجارة أسلحة وسرقة وزواج مبكر وما شابه). ومن المعروف أن الشعب الفلسطيني كان في فترات سابقة يملك أعلى نسبة من الطلاب العرب في مرحلة التعليم العالي (حوالي 1 في المائة)، باعتبارها المدخل إلى تحسين أوضاعه الاجتماعية والمعيشية.
يتخلل هذه الصورة تجارب مضيئة في التعليم العالي من خلال بعض الجامعات الخاصة، ولا سيما في الضفة الغربية، وغزة على نحو أقل. وتلعب هذه الجامعات دوراً مزدوجاً في الحفاظ على الهوية والشخصية الوطنية والقومية، ومواجهة دفع الطلبة الفلسطينيين للتوجه نحو الجامعات العبرية من جهة، وفي توسيع قاعدة التعليم العالي لأكبر شريحة من الشباب، وحصولهم على كفاءات علمية تفيض عن حاجة المجتمع المحلي إلى المحيط العربي والدولي من جهة ثانية. ولما كان الشتات الفلسطيني يكاد يغطي مساحة الكرة الأرضية ويشمل مختلف الدول، فإن الأكاديميين والطلاب الفلسطينيين يوجدون في الكثير من الجامعات الدولية الشهيرة تبعاً للمقاييس العالمية. بالطبع، يلعب هؤلاء دوراً رائداً في خدمة قضيتهم، ويتركون بصماتهم على توجهات زملائهم الأكاديميين والطلاب نحو قضية الصراع على أرض فلسطين وفي المنطقة. لكن هذا على أهميته يجب ألا يجعل أي مراقب يغفل عما تتعرض له القضية الفلسطينية يومياً في ديارها الأصلية من هجوم يميني عنصري صهيوني متعدد الاتجاهات والاستهدافات.
وبالعودة إلى ما طرحناه بداية على صعيد الأوضاع التربوية والتعليمية في المنطقة العربية عبر نماذج مختارة بعد كورونا، نجد أن مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية تعيش أوضاعاً تهدد مصيرها، يأتي في مقدمها سياسات الاحتلال الصهيوني. ويزيد الطين بلة أن معظم، إن لم نقل كل الدول العربية بنسب متفاوتة، تترك هذا الشعب وحيداً وسط هذه المبارزة الظالمة قائلة له: "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون".
(باحث وأكاديمي)