قبل نحو عشرة أعوام، راح إدمان السالفيا المخدّرة يبرز في لبنان، لتنتشر هذه المادة المستخرجة من نبات "سالفيا ديفينوروم" أو "قصعين الكهان" على نطاق واسع قبل خمسة أعوام، لا سيّما بين تلاميذ المدارس والشباب نظراً إلى سهولة تعاطيها والحصول عليها وثمنها الرخيص مقارنة بأنواع أخرى من المخدّرات. وهذا النبات الذي يُستورَد من المكسيك وأميركا الجنوبية يرتبط بشعب "مازاتيك" (من سكان المكسيك الأصليّين) الذي يستخدمها في طقوسٍ دينية "شامانية"، تُعرف بجلسات "التعافي الروحي".
ويعود الحديث اليوم عن السالفيا التي تُعَدّ أحد أخطر أنواع المخدّرات في الأوساط الشعبية، مع تدهور أوضاع اللبنانيين المعيشية وتفشّي وباء كورونا وارتفاع معدّلات الفقر والبطالة في البلاد. لكنّ هذه المادة ليست الهمّ الأساسي للمتخصّصين في علاج الإدمان، بل تأتي كنوع من أنواع المخدّرات التي تنتشر بكثافة في خلال الأزمة الراهنة في البلاد.
وينبّه الطبيب داني خلف، المتخصص في الأمراض النفسية والعقلية، وعضو اللجنة التنفيذية للجمعية اللبنانية للطب النفسي، إلى أنّ "القضية الملحّة في الوقت الراهن تكمن في خطورة إدمان الأفيونيات، منها الهيروين وحبوب الترامادول وغيرهما. يُضاف إلى ذلك السعي مع وزارة الصحة العامة والمنظمات الدولية والجمعيات المحلية إلى تأمين الأدوية المطلوبة، لا سيّما بعد رفع الدعم بشكلٍ جزئي عن أدوية عدّة خاصة بالأمراض النفسية والعقلية ومضادات اكتئاب، وهي أدوية تُعدّ جزءاً من علاج المدمنين. والمشكلة تكمن إمّا في فقدان هذه الأدوية، وإمّا في ارتفاع ثمنها إلى درجة تتخطّى قدرة المريض".
ويقول خلف لـ"العربي الجديد": "نحن نثابر منذ عشرة أعوام على علاج الأشخاص المدمنين، وقد تمكّنّا بفضل عقاقير بديلة من المخدّرات من تحقيق الاستقرار لـ1200 مريض (مدمن) في كلّ أنحاء لبنان، منهم مَن يعمل اليوم ومنهم مَن تزوّج وأنجب". وإذ يؤكّد خلف أنّ "علاج الإدمان علاج طويل الأمد ويختلف بحسب نوع المادة المخدّرة، يستوجب أعواماً أو مدى الحياة (أحياناً)"، يحذّر من تبعات "تخلّف مصرف لبنان عن توقيع اعتمادات جديدة لتأمين الأدوية، ما يهدّد بعودة هؤلاء إلى تعاطي المخدّرات بمجرّد توقّفهم عن تناول علاجاتهم.
والتعاطي في هذه الحالة، قد يتسبّب في وفاتهم من جرّاء جرعة زائدة". ويشير خلف إلى أنّ "العقار الخاص بمعالجة حالات الجرعة الزائدة من الهيروين مثلاً، غير متوفّر في كلّ مستشفيات لبنان، ما يعني موتاً حتمياً. كذلك فإنّ الأدوية التي تساعد المريض على النوم أو تعمل على تنظيف الجسد مرحليّاً من المخدّرات، مفقودة كذلك".
ويأسف خلف لعدم توفّر أرقام دقيقة حول المدمنين في لبنان، لافتاً إلى أنّ "الواقع الطبي السريري يؤكّد ارتفاع الأعداد في هذه الفترة. كذلك يمكن الحديث عن خمسة أنواع من المخدّرات تُعَدّ حاليّاً الأكثر انتشاراً في لبنان نظراً إلى ثمنها الرخيص، وهي: الأفيونيات، الحشيش والماريجوانا (منتجا القنّب الهندي) والهيروين والسالفيا. يأتي ذلك في حين تراجعت نسبة تعاطي الكوكايين والكراك/ فري بَيْز (صخرة الكوكايين)، بسبب ارتفاع أسعارها بشكل كبير، كونها مستوردة وبالعملة الصعبة".
"سالفيا"... انفصال تامّ عن الواقع
ويتطرّق خلف إلى موضوع الخلطات والتركيبات، شارحاً أنّ "التجار يستوردون أنواعاً من المخدّرات من الخارج، ويعمدون إلى خلطها بموادٍ أخرى للحصول على كميّات كبيرة، غير أنّ تلك المواد قد تكون مؤذية أكثر من المخدّرات بحدّ ذاتها". وعن السالفيا، يقول: "لا أرقام دقيقة حول انتشارها بشكل كبير، كذلك فهي ليست همّنا الأساسي كمتخصّصين في علاج الإدمان، لكنّها بالتأكيد ما زالت منتشرة، وهي شديدة الخطورة إذ إنّ أعراضها أقوى من الأعراض التي تنجم عن تعاطي الماريجوانا والحشيش. فتعاطي السالفيا يتسبّب في حالة هذيان وهلوسة شديدة، وفي انفصال تامّ عن الواقع... عن الزمان والمكان، عن الجسد والذات. ويُسجَّل ضياع تامّ وانعدام للوعي وفقدان للإدراك لمدّة تتراوح ما بين 30 إلى 40 دقيقة. لكن في حال إدمانها لفترة طويلة، قد يبقى المريض في المستشفى خمسة أيام وهو يعاني من الهلوسة والضياع المطلق، وهذا ما نسمّيه حالة الفطام (انسحاب المادة المخدّرة من الجسم)".
يضيف خلف أنّ "الجرعة الزائدة من الكوكايين تؤدّي إلى توقّف القلب، ومن الهيروين إلى تضرّر الرئتَين وانعدام القدرة على التنفّس وبالتالي الموت. أمّا السالفيا، فخطورتها بمعظم الأحيان غير مباشرة. ففي حال تعاطيها ثمّ قيادة سيارة، قد يموت الشخص في حادث سير نتيجة ما يراوده من هلوسات. كذلك فإنّه قد يرمي بنفسه من على سطح مبنى، من دون أن يدرك ما يقوم به، وبالتالي يشكّل خطراً على نفسه وعلى الآخرين".
وإذ يكشف خلف أنّ "ثمّة من يتعاطى مزيجاً من الماريجوانا ومواد مهلوسة مدّعياً أنّها السالفيا"، يلفت إلى أنّ الأخيرة "تشبه الماريجوانا في الشكل إذ إنّها ورقيات يابس، لكنّها نبتة مختلفة، ولسنا أكيدين إذا كانت تُزرع في لبنان أم لا. لكنّها تُدَخَّن في لبنان كسيجارة أو بواسطة الغليون في الغالب، علماً أنّ ثمّة طرق أخرى معتمدة في تعاطيها بدول أخرى من قبيل إعدادها كالشاي".
تضاعف عدد المدمنين
من جهته، يشير رئيس جمعية "جاد - شبيبة ضد المخدّرات" جوزيف حوّاط، إلى أنّ "مادة السالفيا كانت تحتلّ سابقاً المرتبة الأولى في التعاطي، ثمّ المرتبة الثانية بعد الحشيش، لكنّها اليوم بمعدّلات أقلّ بكثير"، غير أنّه يؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ "السالفيا خطيرة جداً إذ تصيب الدماغ بطريقة فوريّة، وقد تؤدّي إلى العنف وفقدان التوازن والقدرة على معرفة الأشخاص. كذلك فإنّ علاجها صعب ويتطلّب مساراً نفسيّاً طويل الأمد". ويوضح حوّاط أنّه "لا يمكن كشف مادة السالفيا في معظم الفحوص المخبرية، ومن ضمنها فحص البول. لذلك يلجأ إليها المدمنون بمعظمهم، لكنّنا استطعنا في العام المنصرم تحديد موادها الأساسية لنتمكّن من اكتشافها في البول وفي جسد الإنسان".
ويتحدّث حوّاط عن "مصطلحَين يُتداولان في السوق، هما الملوخية والتفاحتان. ففي لبنان، ثمّة من يعمد إلى تجفيف ورق الملوخية وفرمه ونقعه بالسبيرتو (الكحول الإيثيلي) قبل أن يُضاف إلى السالفيا، أو قد تُضاف إلى ذلك مادة الأسيتون ومواد كيميائية أخرى. أمّا التفاحتان فيعني تدخين السالفيا بواسطة النرجيلة من خلال خلطها مع التنباك".
ويكشف حوّاط أنّ "تعاطي الحشيش يأتي حالياً بالدرجة الأولى في لبنان، ثمّ حبوب الكبتاغون، فحجر الكوكايين (فري بَيْز) والكريستال ميث، بالإضافة إلى الأفيون والهيروين". ويأسف لأنّ "الدراسة الأخيرة حول عدد المدمنين في لبنان تعود إلى عام 2000، في حين أنّ وزارة الصحة العامة توقّفت عن جمع الأرقام من الجمعيات الأهلية"، لافتاً إلى أنّه تمكّن في عام 2021 من "جمع أرقام ومعطيات الأجهزة الأمنية اللبنانية على اختلافها، في انتظار أرقام الأمن العام اللبناني". ويتابع حوّاط أنّه بناء على المتوفّر، يبدو أنّ "عدد المدمنين تضاعف مرّتَين في العامَين الماضيَين".
من جهة أخرى، يلفت حوّاط إلى أنّ "12 في المائة فقط من المدمنين تمّ توقيفهم، الأمر الذي يسلّط الضوء على مشكلة إضافية". ويوضح أنّ "النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات امتنع عن توقيف هؤلاء بحجّة عدم توفّر أماكن كافية في السجون بالإضافة إلى وباء كورونا. ولأنّ عدد المدمنين كبير، فإنّ عدد الذين كانوا سيوقفون يُقدَّر بعشرات الآلاف". ويكمل حوّاط أنّ المعنيّين "يغضّون النظر عن هؤلاء بما أنّهم لا يُدرَجون في إطار التجارة والترويج ولا يرتكبون الجرائم وغيرها. وهذا خطأ فادح، يوحي بأنّنا شرّعنا تعاطي المخدّرات في لبنان. لكنّه في المقابل، ثمّة قضاة في محافظتَي الشمال والجنوب يستمرّون في توقيفاتهم". ويلفت حوّاط إلى "مشكلات عديدة تتعلّق بتأمين الأدوية والفحوص المطلوبة، وتغطية فروقات وزارة الصحة العامة وفواتير المختبرات، وكذلك سداد أتعاب الأطباء والمعالجين النفسيّين".