- الوضع الإنساني يتدهور بشكل ملحوظ، حيث تعاني العائلات المحاصرة من نقص حاد في الطعام والشراب، وتواجه صعوبات في الحصول على الرعاية الطبية، وسط استمرار القصف والحصار.
- قصص إنسانية تبرز محاولات الناجين للحفاظ على هويتهم وذكرياتهم، في ظل الدمار الشامل للبنية التحتية والمرافق الطبية، مما يعكس الأزمة الإنسانية العميقة التي تواجهها غزة.
يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي تدمير مباني مجمع الشفاء الطبي في ما يبدو مخططاً لإنهاء وجود المجمع الطبي الأكبر في قطاع غزة، مع إجبار كل من فيه على النزوح، حتى لو كانوا مرضى أو مصابين.
تشمل العملية العسكرية الإسرائيلية في مجمع الشفاء الطبي تدمير مبانيه، وإحراق المباني القائمة في محيطه، وتقطيع أوصال المنطقة التي تضم حي الرمال وحي النصر، والتي تعد من بين أهم مناطق مدينة غزة المكتظة بالمباني السكنية.
وتحاصر مركبات الاحتلال العسكرية ودباباته بعض العائلات في المنطقة منذ أكثر من خمسة أيام، وكررت العائلات إرسال نداءات استغاثة إلى الصليب الأحمر الدولي وإلى ذويها من النازحين إلى جنوبي القطاع، لكن من دون أي استجابة، وتأكد استشهاد العديد منهم داخل المباني التي حرقها جنود الاحتلال أو هدموها بينما كان سكانها بداخلها، على غرار منزل عائلة أبو حصيرة الواقع غربي مجمع الشفاء، والذي كان يضم عشرات الأشخاص، بعضهم من أفراد العائلة، وآخرين نازحين كانوا يقيمون في المبنى، بينما لا تزال عائلات أخرى محاصرة تنتظر إغاثتها، حتى أن بعضهم دونوا وصاياهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ومجمع الشفاء هو مركز طبي حكومي يعتبر أكبر مؤسسة صحية في قطاع غزة، ويضم ثلاثة مستشفيات تخصصية، هي مستشفى الجراحة، ومستشفى الباطنة، ومستشفى النساء والتوليد، وكانت تبلغ القدرة السريرية الإجمالية له قبل العدوان 564 سريراً.
ومع اقتحام المجمع ومحيطه، عمل الاحتلال على إجبار نساء وأطفال العائلات المتبقية في المنطقة على النزوح، وبعضهم من المسنين والمرضى والمصابين، كما فصل الرجال منهم، واعتقل بعضهم، وترك آخرين بشرط المغادرة فوراً، ثم لاحق النازحين في الطريق بالقصف وبالاعتقال على الحواجز المقامة بالقرب من وادي غزة في وسط القطاع، وتلك القريبة من "شارع 749" الذي يقسم قطاع غزة إلى نصفين.
وبينما تحاصر قوات الاحتلال المنطقة التي تضم مباني سكنية وعشرات العيادات الطبية ومحال تجارية تحولت إلى أماكن لإيواء النازحين، يعجز أفراد عشرات العائلات الموجودة في المنطقة عن الحركة، فقناصة الاحتلال وطائراته المسيرة وآلياته تستهدف أي جسم يتحرك، والطواقم الطبية عاجزة عن الوصول إلى المصابين لإسعافهم، أو نقل جثامين الشهداء الملقاة على الأرض، كما لا يمكن إحصاء أعداد الشهداء أو المصابين، في حين يستمر الاحتلال في عملية إبادة المنطقة بالكامل.
يحاصر الاحتلال المنطقة التي تضم مساكن وعيادات طبية ومحال تجارية
سئمَ أسامة العشي من المناشدات، ويقول إنه لليوم الخامس على التوالي يعيش هو وعائلته محاصرين في مطبخ المنزل، حيث يقضون وقتهم، وينامون، ولا يستطيعون رفع رؤوسهم بالمطلق، ولا يشتمون سوى رائحة البارود والدماء، مشيراً إلى أنه لم يعد يتوقع الخير لأنه جرب حصاراً مشابهاً في حي الرمال، حيث كان يسكن قبل نزوحه إلى محيط مجمع الشفاء.
يضيف العشي، متحدثاً لـ"العربي الجديد": "نحن في انتظار الموت، وربما ما هو أصعب من الموت، لكني سأموت بينما أحمل الكثير من المشاعر التي تجعلني لا أستطيع التركيز، فأنا خائف من كل شيء من حولي، وإن متّ فسأموت محتسباً، ومقهوراً على ما وصلنا إليه، ولا تفارقني حالياً ذكريات وداع أشخاص كثر فقدتهم خلال العدوان الحالي".
تشاهد نعمة أبو فريد (23 سنة)، ما يحصل في المنطقة من شباك منزلها، وشاهدت تفتيش المباني في المنطقة الغربية لمجمع الشفاء الطبي، واعتقال جيش الاحتلال للرجال، وإجلاء النساء اللاتي طلب منهنّ التوجه جنوباً، وهي لا تزال قادرة على الاتصال عبر الإنترنت، واتصلت بالكثير من أقاربها لطلب النجدة، كما اتصلت بطواقم طبية وبالدفاع المدني والصليب الأحمر، وكل ذلك لم يقابل بأي استجابة.
جمعت الشابة الفلسطينية في حقيبتها بعضاً من صورها وهي طفلة، وشهادة ميلادها، ووثيقة هويتها، وكتاباً لقصائد محمود درويش، وبعض الروايات البوليسية، وبعض أغراضها العزيزة عليها، مثل منديل جدتها نبيلة النجار (62 سنة)، التي قضت شهيدة خلال العدوان. تبكي أثناء تسجيل شهادتها حول ما يحصل، وبينما تتكلم يدوي صوت قصف، فتعلق: "الله يسترنا".
يجبر الاحتلال نساء وأطفال العائلات المتبقية في محيط مجمع الشفاء على النزوح
تقول أبو فريد لـ"العربي الجديد": "أواصل التسبيح والاستغفار، لأنهم في أي لحظة قد يقتحمون المبنى الذي يضم نحو 40 فرداً، أكثرهم من الأطفال. نتعرض لحصار مشدد من دون طعام أو شراب، ولا أحد يستطيع إغاثتنا، وأخي سوار (18 سنة)، مصاب في ظهره، إذ كان يقف بالقرب من إحدى النوافذ وأصيب بشظايا قذيفة، والاحتلال يرفض وصول سيارات الإسعاف، ولا نستطيع فعل شيء له، لكن إصابته متوسطة، وأخبرني بأنه يستطيع الصمود".
تضيف: "هناك روائح كريهة في كل مكان، وتوجد جثث في أسفل العمارة التي نعيش فيها، وشاهدت بعيني تدمير مباني في مجمع الشفاء، وتصل بعض الشظايا المتطايرة إلى المنزل الذي نزحنا إليه، وهو يؤوينا منذ فترة، فمنذ تدمير منزلنا في بلدة بيت لاهيا انتقلنا إلى عدة أماكن كنازحين، حتى وصلنا إلى هذا المبنى القريب من مجمع الشفاء، والذي كنا نعتقد أنه سيكون آمنا لأن الاحتلال اقتحم المستشفى في السابق".
كانت زهرة أبو محسن (37 سنة)، من بين المحاصرين الذين أجبرهم الاحتلال على المغادرة من خلال التهديدات عبر مكبرات الصوت، وقد اعتقل زوجها وشقيقه، وتم نقلهم إلى جهة غير معلومة، وتركوها مع ابنتيها ووالدتها المسنة، فتوجهوا إلى المستشفى المعمداني في منطقة البلدة القديمة بوسط مدينة غزة.
تقول أبو محسن لـ"العربي الجديد": "حين خرجنا، كانت المنطقة المجاورة لمجمع الشفاء الطبي تختلف تماماً عما أعرفه عنها من شدة التدمير، وعندما ابتعدنا قليلاً تمكنت من معرفة بعض المعالم المتبقية من شارع النصر الذي يقابل المجمع من الناحية الشرقية، فقد جرفوا الكثير من المباني الواقعة شرق المستشفى، ومن ضمنها فندق (المارنا هاوس)، الذي كان مقصداً للوفود الطبية وأفراد المنظمات الدولية، وكان يستضيف ورش العمل التي تقيمها المنظمات الدولية في السابق، وبعد هدمه، حوّل جيش الاحتلال المكان إلى منطقة عسكرية، وجرى كل هذا خلال الأيام الأخيرة، فقد شاهدت المبنى سليماً قبل يوم واحد من اقتحام مجمع الشفاء".
تتابع: "تم طرد الأطباء والمرضى من المستشفى، وبعضهم تم اعتقالهم، وعندما خرجنا شاهدنا الدماء والجثث في كل مكان، وكانت الجرافات تدوس على بعض الجثث، لكننا كنا مضطرين إلى الصمت ومتابعة السير، والبعض نزحوا باتجاه البحر، وآخرون نزحوا معنا إلى المستشفى المعمداني لحاجة ذويهم للعلاج، ومن بينهم والدتي المسنة التي تعاني من مشكلات في الحركة".
وتوضح أبو محسن أنه "في البداية، كنا نتردد في اتخاذ قرار الخروج لأنه لا ضامن لوصولنا بالمطلق، ومع تكرار التهديدات، بالتالي كنا آخر النساء اللاتي غادرن المجمع الطبي، وسرت مع عدد من النساء اللاتي اعتقل أزواجهن بعد استجواب الاحتلال كثيرات منهن، وقد شاهدنا بعض الرجال المرضى والمسنين بعد التحقيق معهم في مجمع الشفاء، وكانت على أجسادهم دماء، وبعضهم لا يقدرون على الحركة ولا الكلام".
وتؤكد علياء أبو مصبح (40 سنة)، أنها مرت خلال رحلة النزوح من أمام بنك الدم في المنطقة الجنوبية لمجمع الشفاء الطبي، والذي تم تدميره بالكامل، وخلال تحركها، شاهدت تدمير الكثير من المنازل، كما شاهدت في طريقها إلى شارع الرشيد للنزوح إلى الجنوب آثار تدمير الاحتلال المناطق الغربية من المجمع التي تقع بالقرب من مخيم الشاطئ.
تضيف أبو مصبح، متحدثة لـ"العربي الجديد": "كنت أعمل لدى إحدى المؤسسات الداعمة للنساء في غزة، وكان معظم النازحين من النساء والأطفال، إضافة إلى أعداد من الرجال كبار السن، وتكرر إطلاق النار باتجاهنا من القناصة الإسرائيليين خلال رحلة نزوحنا، لكننا نجونا من الموت، كما واجهنا محاولات إذلال وتهديد على الطريق الساحلي، وجرى اعتقال عدد من الرجال. حصلت العديد من المجازر في مجمع الشفاء، ولا يعلم بها أحد سوى بعض من كانوا موجودين هناك، وكنا نجلس على درج الأقسام من شدة القصف، وتنهال علينا القذائف من كل مكان، والبعض أصيبوا بسبب تطاير الشظايا، ولم نكن نملك وسيلة لإسعافهم، ولا نجد مكاناً آمناً نذهب إليه".
تواصل: "نجوت من القصف عدة مرات في شرقي مدينة غزة، وفي حي الرمال منذ بداية العدوان، لكن أياً منها لم تكن بحجم أو خطورة استهداف مباني مجمع الشفاء، حيث جرت إعدامات كثيرة، وشاهدنا الكثير من الجثث والأشلاء المتناثرة، وكان المحيط يغص بالقناصة، وكانوا يطلقون النار على أي شخص يغير مسار النزوح المحدد".