مارغريت فؤاد نجارة تعمل وتعلّم

08 مارس 2022
تتقن مارغريت حرفة النجارة تماماً (العربي الجديد)
+ الخط -

تسببت الفأرة والشاكوش والمبرد والشنيور والمنشار وبقية أدوات النجارة، بخشونة في كفّي المصرية مارغريت فؤاد، لكنها حققت هدفها في احتلال موقع مميز بين ممتهني هذه الصناعة، وجذب الزبائن إليها في منطقة عين شمس المكتظة شرقي القاهرة، حتى بات بعضهم يفضل عملها على النجارين الرجال.
تمسك مارغريت (تُكتب مارجريت بالمصرية) بالفأرة وتمررها باقتدار على المنضدة، في حين أنّ اسمها قد يوحي بأنّها تعيش في لندن، وتستخدم "فأرة" من نوع آخر بطريقة ناعمة لتحريك جهاز الكمبيوتر.

تقول لـ"العربي الجديد": "لم يكن العمل سهلاً من البداية، فمنذ احترفت المهنة الشاقة اضطررت إلى منافسة ورثة حصريين لها، وهم من الرجال طبعاً، وكان النساء في المنطقة يستعن بي بدافع الرغبة في الاستئناس بامرأة مثلهن في بيوتهن وسط الحياء من دخول رجال عليهن. لكن مع الوقت بتن يفضلنني على الرجال، ليس لطلب الاستئناس فقط، بل أيضاً لأنهن اقتنعن بمهاراتي في المهنة".

قضت مارغريت أكثر من نصف عمرها الذي يناهز 45 عاماً في مهنة النجارة التي تقول إنّها "تقصّر العمر" لكنّها لم تزاول غيرها في حياتها، وحققت فيها مسيرة لائقة ونجاحات في جلب الأخشاب وتطويعها، وتسويق منتجاتها.
واللافت أنّ مارغريت امتهنت النجارة بعد عامين من زواجها من نجار أيضاً، حين أراد زوجها الاستعانة بعامل "صنايعي" لمساعدته في الورشة التي أسسها في القاهرة بعدما نزح مع أسرته من مدينة طنطا (شمال) بحثاً عن رزق أوفر، إذ قررت حينها أن تحلّ بنفسها مشكلة نقص "الصنايعي" بدلاً من الاستعانة بعامل يرهق ميزانية الورشة، ويخفّض مدخولها.
علمها الزوج استخدام كلّ الأدوات حين كانت لا تزال طالبة في معهد التجارة الذي كانت تذهب إليه صباحاً من أجل تحصيل العلم، ثم تأتي إلى الورشة للتدريب على العمل. وفي آخر النهار، كانت تعود إلى شقتها لتحضير الطعام للزوج والأولاد لليوم ذاته واليوم التالي.
ومع الوقت، عانى زوجها من متاعب في القلب فاضطر إلى خفض جهده الذي يضرّ بعضلة القلب، وحلّت مارغريت محله في شكل كامل، وتحملت أعباء تشغيل الورشة بإشراف زوجها.

الصورة
تفضل النساء مارغريت على النجارين الرجال... بسبب مهارتها أيضاً (العربي الجديد)
تفضل النساء مارغريت على النجارين الرجال... بسبب مهارتها أيضاً (العربي الجديد)

لم يتقبل الأهل والجيران هذا الأمر في البداية، ورأى بعضهم أنه معيب وأصرّ آخرون على أن مهمات حرفة النجارة صعبة جداً على امرأة ترعى في الوقت ذاته ولدين وبنتاً، لكنهم تقبلوا الواقع في نهاية المطاف، باتوا يستعينون بها في الأشغال، ويعتمدون عليها.
والطريف أن الزبائن شككوا في إمكاناتها في المرحلة الأولى لتعاملهم معها، إذ كانوا يتحلقون حولها ويراقبون عملها بقلق خشية أن تفسد الأثاث أو الأبواب بدلاً من أن تصلحها، ثم تتملكهم الدهشة بعد دقائق من رؤية حركة تثبيتها قلم الرصاص خلف أذنها بعد أن ترسم وتخطط به على الخشب ما ستنفذه، ثم تطعن الخشب بالشنيور وتقطع أوصاله بالمنشار مثل أي نجار محترف وقدير.

الصورة
مارغريت على قدر مستوى العمل المحترف (العربي الجديد)
مارغريت على قدر مستوى العمل المحترف (العربي الجديد)

والواقع أنّ بلوغ هذا المستوى الاحترافي لم يكن أمراً يسيراً بالنسبة إلى مارغريت التي نزفت دماً مرات من إصابة المنشار لأصابعها، أو الشاكوش لكفها بدلاً من المسمار. لكنها أصرّت على استكمال عمل الورشة التي أمنت احتياجات الأسرة على صعيد تعليم الولدين وتزويج الابنة. وتقول مشيرة إلى باب الورشة المفتوح يومياً منذ الساعة الواحدة بعد الظهر إلى التاسعة مساءً، باستثناء الأحد: "آمل بأن تظل أبواب الورشة مشرعة لاستقبال الزبائن، وتحصيل الرزق كي أستمر في أداء واجباتي مع أسرتي".
ورداً على سؤال بديهي عن احتمال وجود بديل لعملها في مهنة النجارة من أجل تنفيذ مهمات أقل مشقة وأكثر دخلاً، تجيب مارغريت بفخر: "لا أخجل من المهنة ولا أكرهها، فهي أحسن من العمل مع غرباء لا أدري كيف سيعاملونني، سواء باحترام أم بإهانة".

الصورة
تفتخر مارغريت بمهنتها (العربي الجديد)
تفتخر مارغريت بمهنتها (العربي الجديد)

وإلى جانب حرفة النجارة، تظهر مارغريت براعة كبيرة في التجارة، إذ تعلمت كيف تشتري المواد الخام اللازمة لصنع الأثاث، وكيف تسوّق بضاعتها في المعارض، ما ساعد في استمرار العمل والأسرة.
وبعدما أمضت وقتاً طويلاً في ممارسة مهنة النجارة الشاقة التي تسببت لها بآلام في الغضروف، لا تنكر مارغريت أنّها فكرت مرات بالتوقف عن العمل قبل أن تتراجع لتدارك أزمات ارتفاع الأسعار التي تلتهم الأسرة بكاملها، ما اضطرها إلى الاستجابة لأي طلب للاستعانة بها.

وعلّمت مارغريت ابنيها أسرار المهنة، بالتعاون مع زوجها. وبات أحدهما قادراً على العمل بمفرده، وافتتح ورشة خاصة به، أما الثاني فما زال تلميذاً في المدرسة، ويدأب على مساعدتها في الورشة.
وتؤكد مارغريت افتخارها بمسيرتها التي حافظت فيها على أعمال ورشة وطورتها، وأنشأت أسرة. وتحكي أنّه حين بكى أولادها يوماً وسط زملائهم الذين نادوهم بـ"أولاد النجّارة" قالت لهم: "يناودوننكم يا صغاري بما يميّزكم، فأنتم أبناء من عملت وعلّمت بالحلال".

المساهمون