يحصد قطاع التعليم في ليبيا ما زُرع خلال عقود متلاحقة، سواء على مستوى التعليم العام أو الجامعي، ما يعني أن هناك تراكماً في المشكلات. كانت بداية التعليم الفعلية محدودة بعيد نهاية الاحتلال الإيطالي، وكان عدد مَن يجيدون القراءة والكتابة محدوداً، وفي عام 1955، كان افتتاح أول جامعة ليبية.
استمر التقدم ببطء شديد في زمن حكم الملك السنوسي حتى ظهور اقتصاد النفط، الذي بدأ إنتاجه في ستينيات القرن الماضي، ثم حدث أن قام العقيد معمر القذافي بانقلابه العسكري، فدخلت البلاد في خضمّ تجربة فوضى "منظمة" تحت شعارات ثورية منمَّقة، أطلق خلالها القذافي ما أسماه "ثورة الطلاب"، ليجري إطلاق "رصاصة الرحمة" على التراتبية المؤسسية في التعليم. وينطبق ذلك على المدارس والجامعات.
خلال "ثورة الطلاب" أُلقي القبض على كل مَن لا يتوافق مع "أفكار الثورة" من طلبة وأساتذة، وأُعدم بعضهم رمياً بالرصاص في حرم الجامعات، وخضعت المدارس والجامعات لـ "الإدارة الطلابية"، ما عزَّز الفوضى الشاملة. حلّ مقياس الولاء "الثوري" محل المقاييس الأكاديمية والتعليمية، وباتت الأيديولوجيا المسيطرة على كليهما هي أدبيات الثورة، وجوهرتها "الكتاب الأخضر".
لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، فقد حلّت محل "الإدارة الطلابية" حركة "اللجان الثورية" التي تحكمت في إدارات الدولة، ومن ضمنها قطاع التعليم، فغيرت من سبل إدارته ومناهجه تباعاً، حتى وصل الأمر بالعشوائية إلى إلغاء تدريس اللغتين الإنكليزية والفرنسية.
كان من البديهي أن تتابع "الثورة زحفها المظفر" في منتصف الثمانينيات، عندما حُوِّلَت المدارس الإعدادية والثانوية والكليات إلى ما يشبه الثكنات العسكرية، وبات قسم من المعلمين والطلاب مجبَرين على ارتداء الألبسة العسكرية، ومعه كل ما يرتبط بالثكنات من طقوس من نوع طابور الصباح، وتحية العلم، ورياضة الركض، وبات المعلم يحوز لقب "الضابط المعلم".
لزيادة الطين بلة، بات عسكريون يشرفون على المدرسة، وكان هؤلاء يوجهون الإهانات لأي معلم أو طالب لا يحمل البندقية بالشكل المطلوب، أو يخطئ في تفكيكها وإعادة تركيبها، أو يعجز عن القيام بالحركات القتالية، بما فيها الزحف تحت الأسلاك ووسط النيران وغيرها.
في عام 1987، وعندما كان الطلبة في منتصف العام الدراسي، جرى جرهم للمشاركة في المعارك التي نشبت في إقليم تشادي سيطرت عليه ليبيا، وتُركوا من دون طعام أو شراب كافٍ وسط درجات حرارة قاتلة. بالطبع، قتل وأُسر كثيرون، أما الذين عادوا، فكوفئوا بإلحاقهم بالكليات من دون إكمال دراستهم الثانوية، ما أدى إلى فشلهم الدراسي. ليحافظ مستوى التعليم على تراجعه حتى مطلع الألفية الثانية عندما استعاد بعض أنفاسه، وأُسِّسَت بعض المدارس النموذجية.
منذ عام 2011، عادت الفوضى والانقسامات، ودخلت البلاد في حروب كان أساتذة الجامعات والمدارس وطلابها وقودها الفعليّ، فقد تحول قسم لا يستهان به منهم إلى عناصر وضباط في المليشيات، وتمترسوا على جبهات القتال تاركين مقاعد الدراسة. ما يبدو معه كأنّ ليبيا تنتقل من حالة تصحر إلى ثانية أقسى منها، وسط حروب متتابعة لا تترك مجالاً للحوار إلا بلغة السلاح وقيمه المدمرة.
(باحث وأكاديمي)