تخوضُ الحكومة البريطانية، ممثّلة برئيسها ريشي سوناك ووزيرة الداخلية سويلا برافرمان، طريقاً طويلاً ومحفوفاً بالمخاطر في مواجهة طالبي اللجوء الوافدين إلى شواطئ المملكة المتحدة بشكل غير قانوني، وذلك بعدما أعلنت برافرمان، بدعم كبير من سوناك، عن مشروع قانون يحظر بقاء أي شخص قدم إلى البلاد بشكل غير نظامي، على أن يجرى احتجازه وترحيله على الفور إلى بلده الأصلي في حال كان آمناً، أو إلى بلد ثالث أكثر أماناً مثل رواندا.
ويذهب مشروع القانون أبعد من ذلك، ولا يستثني سوى من هم دون السن القانونية أو المرضى العاجزين، على أن تعفيهم السلطات من الترحيل الفوري وتنظر في أوضاعهم. لكنهم في نهاية المطاف "سيرحّلون ولن نسمح لهم بالبقاء"، بحسب برافرمان التي أعلنت في خطابها الأول كوزيرة للداخلية أن حلمها سيتحقق عندما تحلّق طائرة الترحيل إلى كيغالي محمّلة بطالبي اللجوء "الغزاة"، على حد وصفها. كما يفرض مشروع القانون حظراً أبدياً على المرحّلين، على أن يُمنعوا مستقبلاً من الدخول إلى أراضي المملكة تحت أي ظرف من الظروف وبغض النظر عن الأسباب.
ويحتاج مشروع القانون إلى موافقة مجلسي العموم واللوردات، ولن يتحقّق إقراره ودخوله حيّز التنفيذ إلا بعدما تتمكّن الحكومة من تجاوز العديد من العقبات. ويأمل سوناك أن يتحقق الأمر بحلول شهر سبتمبر/ أيلول المقبل على أقرب تقدير، وقبل الانتخابات العامة المقبلة المقررة بعد عامين على أبعد تقدير.
وسيُواجه مشروع القانون الكثير من الطعون القانونية في بريطانيا وخارجها، وخصوصاً مع اعتراف برافرمان نفسها بأنه "يتجاوز" القانون الدولي، لكنه "ضروري"، كما جرى مع خطة رواندا المثيرة للجدل والتي واجهت طعوناً قانونية في المحكمة البريطانية العليا، وقبلها في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، عندما أُوقفت أول طائرة ترحيل في شهر يونيو/ حزيران الماضي. لكن سوناك قال إنّ الحكومة "مستعدة للقتال" إذا ما تعرّض مشروع القانون إلى مواجهات مع المحاكم. ولا يعترف مشروع القانون بـ"العبودية الحديثة"، كما يعتبر أن الاضطهاد ليس سوى ادعاءات زائفة.
ويتحايل مشروع القانون على بنود الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين، ويرى أن القادمين إلى شواطئ بريطانيا "بشكل غير قانوني ليسوا فارّين مباشرة من بلد مزّقته الحروب ولا من الاضطهاد والتهديد الوشيك، كونهم قدموا عبر دول أوروبية آمنة. ويفرض مشروع القانون على وزير الداخلية "واجباً قانونياً" بترحيل طالبي اللجوء إلى بلدهم الأصلي أو إلى بلد ثالث "أكثر أماناً".
وعلمت "العربي الجديد" من مصادر خاصة أن الحكومة تعمل على إنهاء عقودها مع الفنادق المعتمدة في العاصمة البريطانية، والتي كانت تستخدمها لإيواء اللاجئين، وهي خطوة تصعيدية ترمي إلى البدء مباشرة في خلق الظروف المناسبة لتنفيذ خطّتها الجديدة فور إقرارها في البرلمان. وكانت برافرمان قد قالت مؤخراً إن الحكومة تنفق يومياً ما يقارب ستة ملايين جنيهاً إسترلينياً (نحو 7 ملايين و180 ألف دولار أميركي) لإيواء طالبي اللجوء في الفنادق.
وتعترف الحكومة بأن نسبة توافق خطّتها مع الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لا تتعدى خمسين في المائة، لكنها تستحق المحاولة. وعلى الرغم من اعترافها بأن مشروع القانون قد يتجاوز القوانين الدولية، إلا أن برافرمان نفت أن يكون فيه خرق صريح لالتزامات البلاد الدولية، كاتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
بالإضافة إلى التحديات القانونية، يواجه مشروع القانون الجديد تحدّيات لوجستية، ويتطلّب خلق وتوفير مساحات احتجاز جديدة. والأمر صعب للغاية في ظل ما تعيشه البلاد من أزمة اقتصادية غير مسبوقة. وسبق لوزيرة الداخلية أن تعرّضت لضغوط كبيرة منتصف العام الماضي، بعد فضيحة مركز "مانستون" في كينت جنوب شرقي البلاد، وقد اضطرت السلطات إلى حشر 4500 لاجئ في مكان لا يتسع إلا لـ1600 شخص. وسيقدّم مشروع القانون سقفاً سنوياً لعدد اللاجئين المسموح لهم بالبقاء، على أن يحدّده مجلس العموم في وقت لاحق.
ويرفض مشروع القانون طلبات جميع اللاجئين القادمين عبر الوسائل غير القانونية وغير الآمنة، لكنه لا يقدّم أي وسائل قانونية أو آمنة لعبور طالبي اللجوء.
ويمنح مشروع القانون الحكومة البريطانية سلطة الالتفاف على أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وحتى اللحظة، ليس واضحاً بعد ما إذا كانت بريطانيا ستنسحب من المحكمة بعدما لوّحت الحكومة أكثر من مرة بإمكانية القيام بذلك، وخصوصاً أن سوناك يتعرض اليوم لضغوط من نوّاب في حزب المحافظين لفك ارتباطهم بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
ردود فعل عنيفة
في بيان قاسي اللهجة، انتقدت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مشروع القانون الجديد، معتبرة أنه يمثّل "انتهاكاً واضحاً لاتفاقية اللاجئين ويقوّض تقليداً إنسانياً عريقاً لطالما افتخر به البريطانيون". كما اعتبرت أن "مشروع القانون بشكله الحالي يعني حرمان العديد من طالبي اللجوء، ممن هم في أمس الحاجة للحماية والأمان، من فرصة النظر في قضيتهم"، مضيفة أن "معظم الفارين من الحروب والاضطهاد لا يمتلكون جوازات سفر وتأشيرات دخول"، وما من وسائل آمنة وقانونية متاحة أمامهم.
واتهمت المفوضية الحكومة بـ"تشويه الحقائق الأساسية"، إذ ينظر مشروع القانون إلى طالبي اللجوء كأشخاص لا يستحقون الحماية، لأنهم وصلوا بطريقة غير قانونية، مطالبة الحكومة وجميع النواب بـ"إعادة النظر في مشروع القانون، والسعي بدلاً من ذلك إلى حلول سياسية عملية وإنسانية". وقال أحد المحامين المطّلعين على الملف، لـ"العربي الجديد"، إن الحكومة لن تفعل عبر خطّتها الجديدة سوى خلق المزيد من التحديات القانونية في سياساتها تجاه اللاجئين، والمزيد من المعارك المكلفة لجميع الأطراف، وبالتالي، الغاية منه سياسية للفت أنظار الناخبين حول إخفاقات حكومات حزب المحافظين المتعاقبة منذ 13 عاماً.
من جهتها، اعتبرت مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الداخلية، إيلفا جوهانسون، أن مشروع القانون الجديد "ينتهك القانون الدولي ويهدّد بإشعال الأعمال العدائية". وتأتي تصريحاتها بعد أيام قليلة من الوفاق الأوروبي البريطاني حول "وثيقة وندسور" التي طوت صفحات طويلة من الخلاف حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وبروتوكول أيرلندا الشمالية. كما جاءت قبل القمة الثنائية التي جمعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسوناك وبرافرمان (أمس). بالإضافة إلى العديد من الملفات المشتركة، فإن مسألة عبور القوارب على أجندة أعمال القمة.
وكان لافتاً أن يعبّر لاعب كرة القدم المتقاعد والمعروف غاري لينكر عن رأيه على الهواء مباشرة، وقال في البرنامج الرياضي المستقل الذي يقدمه على قناة "بي بي سي" إن "اللغة المستخدمة في مشروع القانون الجديد تذكّره بألمانيا في الثلاثينيات"، ما أثار جدلاً في الحكومة حول "قواعد الحياد" في هيئة الإذاعة البريطانية. لكن لينكر أجاب لاحقاً على أسئلة الصحافيين مؤكداً تمسّكه بموقفه وعدم ندمه عن التعبير علناً.
نقص في الموارد
يُذكر أن نظام الهجرة يعاني مثله مثل قطاعات أخرى من نقص هائل في الموارد، ووصلت أعداد طالبي اللجوء ممن ينتظرون البتّ في ملفّاتهم إلى 166 ألف شخص، وسط تقصير حكومي غير مسبوق في توفير مساحات احتجاز لائقة تتسع لكل تلك الأعداد. أمر أدّى إلى اشتعال أزمات عميقة تجلّت بإقدام بعض طالبي اللجوء على الانتحار يأساً وخوفاً من أن ينتهي بهم المطاف في رواندا، أو بتعرّض بعض الأطفال إلى المضايقات والاغتصاب في مراكز احتجاز مخصّصة للبالغين فقط، أو بهرب كثيرين، وبالتالي تعرّضهم لمخاطر جمّة في مدينة شاسعة لا يتقنون لغتها ولا يمتلكون مفاتيحها بعد.
ولم يكتف سوناك بالحرب مع الاتحاد الأوروبي ومنظمّات حقوق الإنسان، بل هاجم أيضاً المحامين اليساريين في بريطانيا الذين أحبطوا جهود القضاة في مواجهة الهجرة السرية. وفي سياق متصل، تلقّى العديد من نواب حزب المحافظين وناخبيهم رسالة إلكترونية بتوقيع برافرمان، تتهم فيها موظّفي الخدمة المدنية وحزب العمال المعارض والمحامين اليساريين بعرقلة "المساعي التشريعية للحدّ من عبور القوارب الصغيرة". إلا أن الحكومة ألقت اللوم على مقرّ حملة حزب المحافظين الذي "أرسل البريد الإلكتروني من دون أن يطلع وزيرة الداخلية عليه"، ما دفع الأمين العام لاتحاد الخدمة المدنية التابع لإدارة الغذاء والدواء، ديف بنمان، إلى اتهام الحكومة بـ"التهجم المباشر والجبان على نزاهة الآلاف من موظّفي الخدمة المدنية المخلصين في عملهم مع وزارة الداخلية"، متّهماً برافرمان بـ"خرق القانون الوزراء الذي ينصّ على تمسّك الوزراء بالحياد السياسي للخدمة المدنية".
في غضون ذلك، قال مجلس نقابة المحامين إن "هجوم سوناك وبرافرمان ينم عن جهل مروع ومؤسف لدور المحامين، الذين يمثلون موكّليهم من طالبي اللجوء ضمن الإطار القانوني الذي وضعه البرلمان". كل ذلك وسط تشكيك أحزاب المعارضة والمنظمات الحقوقية وهيئات المجتمع المدني في أخلاقية مشروع القانون الجديد وفي الجدوى السياسية والاقتصادية له.
وبحسب توقّعات المجلس البريطاني للاجئين، سيجرى "اعتقال واحتجاز" أكثر من 65 ألف طالب لجوء هذا العام لأكثر من 28 يوماً، إذا ما تم تمرير مشروع القانون الجديد، أي ما يعادل أربعة أضعاف سعة منطقة الاحتجاز الحالية. هذا بالإضافة إلى توقّعات بعدم الجدوى منه في إيقاف تدفّق المهاجرين، كما هو الحال مع خطة رواندا، التي افترضت الحكومة قبل عام أنها ستردع عبور المزيد من طالبي اللجوء خوفاً من الترحيل. إلا أن عدد القوارب الصغيرة القادمة إلى المملكة خلال العام الماضي كان أعلى من عددها خلال عام 2021 بأكثر من مائة قارب، ووصل عدد المهاجرين على متنها عام 2022 إلى 45728 شخصاً أي أكثر بـ60 في المائة من عدد المهاجرين عام 2021".