23 إبريل/ نيسان 2022، تاريخ جديد كتب في سجل أحداث مدينة طرابلس اللبنانية ومآسيها والتي لم يذق أبناؤها إلا طعم الحرمان والإهمال والتهميش. تاريخ سطّر فاجعة غرق زورق يزعم ركاب أرادوا الهجرة أنه يخت حديث استخدموه للخروج من بلد لم يصلح يوماً للعيش بالنسبة إليهم.
وقد مرّت أيام على الحادثة من دون أن يُنتشل الزورق الذي يحمل أدلة مهمة من عمق البحر، والسلطات الرسمية غائبة كلياً عن إصدار أرقام رسمية عن عدد الركاب أو المفقودين أو حتى الضحايا، ما يشكل بالنسبة إلى الناجين "محاولة متعمّدة للتستر عن التقصير الفاضح الذي واكب عمليات البحث والإنقاذ".
وفي وقت كلّفت الحكومة قيادة الجيش التحقيق في الحادث بإشراف القضاء، وبدا أنها تؤيد رواية القوات البحرية التي عرضت وثائق وصوراً قالت إنها "تظهر عدم ضلوع الجيش في إغراق الزورق الذي حاول قائده نفسه الهرب"، يؤكد ناجون وأفراد من عائلات مفقودين لـ"العربي الجديد" أن "طراد الجيش صدم الزورق ما أدى إلى غرقه، وأن الركاب تعرضوا لوابل من الشتائم من قبل العسكريين"، معربين عن عدم ثقتهم بأي تحقيق تجريه السلطات اللبنانية، وتخوفهم من طمس الحقيقة، وإفلات المسؤولين من العقاب.
يروي الناجي ماهر حموضة (23 عاماً) لـ"العربي الجديد" أنه "عند الساعة السابعة والربع مساءً انطلق المركب وعلى متنه 60 شخصاً. وكنا مرتاحين جداً، وأنا كنت أتمدد وأهمّ في النوم، وغير صحيح أن حمولة المركب كانت زائدة". يضيف: "عند الساعة الـ8 والنصف لحقنا طرّادان للجيش أحدهما كبير، وأحدثا أمواجاً، ثم صدمنا الطرّاد الكبير والتف علينا لإغراقنا، من دون أن تنجح محاولته. بعدها تلقى الضابط على متن الطرّاد الكبير اتصالاً هاتفياً، وقال لنا فور انتهاء المكالمة: "بدي قبّركن (أدفنكم)، وسيّر دفة الطرّاد لصدم الزورق من الأمام والذي التف بنا، ثم ضربنا الطرّاد مجدداً من المنتصف، وخلال ثانية واحدة كنا في الماء وغادر الجيش وتركنا وابتعد عنّا كثيراً. شخصياً سبحت ساعة ونصف الساعة، ووصلت إلى مركب للجيش رمى عناصره حبلاً لي استخدمته للصعود، ثم ساعدت 5 أشخاص تواجدوا قربي في الصعود عبر مدّ الحبل إليهم، ثم توقفت بعدما قال لي عسكري اترك هذا الشخص، وشتم قائلاً: "لا يتسع المركب أكثر من ذلك".
مجموعة عائلات
ويخبر حموضة أن الجيش بدأ في مساعدة الركاب بعد نحو ساعتين، "ففي البدء لم يقترب جنوده منا، بل ضربوا المركب وأغرقوه، ثم غادروا عندما رأونا نغرق وأطفأوا الأضواء. أنا سبحت حتى وصلت إلى مكان وجود الجيش من خلال متابعة مسار ضوء رادار أخضر صغير. وبمجرد أن شعر العسكريون أنهم ارتكبوا جريمة فعلاً شغلّوا الإنارة، وذلك بعد ساعتين من الحادث، وتدخلوا لإنقاذ الناس".
ويشير إلى أن "أفراد 3 عائلات لبنانية اجتمعوا للذهاب بهذه الرحلة إلى إيطاليا. ارتدينا كلنا سترات نجاة، لكن الشباب الذين تواجدوا أعلى المركب لم يحتاجوا لها. ذهبت مع أقربائي، ولم أدفع أي مبلغ فأفراد المركب كانوا عائلات ولم نذهب مع مهرّب، بل مع عائلة الدندشي. ومنطقياً لا يمكن أن يأخذ قائد الزورق إذا كان مهرّباً أولاده، وبينهم ابنه البالغ 8 سنوات الذي توفي، وابنته البالغة 11 عاماً وزوجته واللتين لم يعثر عليهما، وكذلك أولاد شقيقه، وأحدهم رضيع عمره 40 يوماً".
يتابع: "نريد حقنا ببساطة، ونسأل أولادنا في رقبة من، وندعو إلى إجراء تحقيق دولي في ما حصل، إذ لا ثقة لنا بأي تحقيق تجريه الدولة اللبنانية التي نعرف كيف تعاطت مع قضية انفجار مرفأ بيروت، وكيف أهدرت حقوق الناس، وهو ما سيحصل معنا".
ويدعو حموضة إلى متابعة البحث عن المفقودين، مكرراً أن "الضابط تلقى أمراً بصدم الزورق عبر الهاتف، ففي البداية اكتفى الجيش بمطاردتنا ولم يقترب منا، بل تواجد خلفنا".
ورغم الفاجعة، يشدد حموضة على أنه سيهاجر عبر البحر أيضاً، إذا حصل على أدنى فرصة جديدة، ويقول: "لن أبقى في هذا البلد فالآتي أعظم، وقد لا نتمكن من السير في الشارع. عشنا الحرب وأحداث طرابلس التي كتب عليها أن تبقى محرومة. يجب ألا نفرح، ونحن أساساً لم نرَ الفرح يوماً".
ويختم بأنه كان يريد الذهاب إلى السويد للعمل في تصليح السيارات، وعيش حياة جميلة أفضل من لبنان، "فإذا مرضت هناك سيستقبلني أحد على الأقل".
"حكم إعدام"
بدوره، يروي فادي الدندشي (أبو تيمور) ما حصل على متن الزورق الذي كان يستقله أشقاؤه الثلاثة الناجين بلال وعميد ورائد الذي هو قائد المركب الذي أوقف وأطلق سراحه. وجميع الأشقاء فضّلوا عدم الإدلاء بتصريحات.
يقول أبو تيمور لـ"العربي الجديد": "اليخت كان جديداً ومجهزاً بكل شيء وتزوّد بمحركين جديدين ركبا بعدما جلبا ملفوفين بالنايلون. وجربت اليخت شخصياً قبل أسبوع، ووجدت تجهيزاته في حالة جيدة جداً بعدما قدته إلى مدينة جبيل، علماً أنه يتسع لـ70 شخصاً وحتى 100 براحة كبيرة، فقرّرت مع أشقائي وأولاد عمي وجيران لنا الصعود على متنه".
يضيف: "سبق أن ذهبنا قبل حوالي 5 اشهر على متن مركب، وقطعنا المياه الإقليمية، لكنه تعطّل، وسحبنا طرّاد الجيش وردّنا إلى الشاطئ. حينها لم يحكم الضابط علينا بالإعدام كما فعل زميله يمن كانوا على متن الزورق في ليلة الفاجعة. وأسباب محاولة الهجرة معروفة، ولا تحتاج إلى سرد. لا يشحذ أشقائي رغيف الخبز، وهم قرروا الذهاب إلى إيطاليا لتأمين مستقبل أولادهم. ولو قرروا الذهاب عبر المطار لاحتاجوا إلى 7 أشهر على الأقل للحصول على جوازات سفر، فقرروا الهجرة عبر البحر".
5 دقائق
ويشدد "أبو تيمور" على أنه "كان يمكن استخدام وسائل أخرى لإعادة الركاب بدلاً من الحكم عليهم بالإعدام، والقول لهم بدنا نقبركن (ندفنكم). تواجد طرّادان في البحر، وأمر الضابط العسكر بمهاجمة الزورق، لكن عسكرياً شريفاً يتمتع بدين وإنسانية رفض الأمر، ورمى السلاح، وقال للضابط أنت تحكم عليهم بالإعدام، هناك أطفال لنجد وسيلة أخرى لا تؤذي أحداً منهم، لكن الضابط ردّ: قم بما أمرتك به. فرفض أيضاً، ثم أطفئت كل وسائل الإضاءة، ما جعل الرؤية معدومة. يزعمون أن اليخت هو الذي اصطدم بطرّاد الجيش، لكن إذا كان هذا اليخت مطارداً وملاحقاً، هل يمشي أمامه أو خلفه لمطاردته؟".
يضيف: "حام الطرّاد حول المركب لإحداث أمواج نعلم باعتبارنا نملك خبرة في البحر أنه يهدف إلى إدخال المياه إلى الزورق الذي كان يحتاج إلى خمس دقائق لقطع المياه الإقليمية، لكنهم التفوا وضربوه من الأمام فقال أشقائي للشباب إن اليخت ضرب، وقال الضابط علناً سأقبركم (أدفنكم)، ولم يقل سأخلصكم".
"ليسوا غنماً"
من جهته، يقول سيف الدين مرعب الذي يواصل البحث عن شقيقتيه مها وحنان وأولادهما وأفراد آخرين من عائلته، لـ"العربي الجديد": "لم أعلم بتوقيت الرحلة، ولم أتعامل بجدية مع الموضوع. قالوا لي إنهم سيسافرون إلى ألمانيا، ولم أعلم أنهم سيستخدمون هذه الطريقة، فأنا لا أضحّي بهم".
يضيف: "علمت أن صاحب الزورق قال لهم إنه سيبحر في اليوم المشؤوم، وأخذ هواتفهم واطفأها ثم علمنا أن الزورق غرق. حاولنا الاتصال للاطمئنان، لكن الهواتف كانت مغلقة، وعلمنا بخبر الغرق نحو الساعة الـ9 إلا ربعاً، وبدأت أسماء الركاب تظهر، ويكتشف الأهالي أن هذا الزورق يحمل أولادهم. لا أعرف المهرّب الذي تواصل مع أحد أصهرتي، وأبلغه أنه ذاهب مع عائلته، وأن الزورق سينقل 30 شخصاً، وأنه في حالة جيدة جداً وأرسل له صوره. لكن تبين أنها تجارة والقصة ليست مرتبطة بعائلات، إذ تواجد 85 شخصاً على متن المركب، وبينهم سوريون وفلسطينيون".
ويأسف سيف الدين لطريقة التعامل مع الركاب "فهم ليسوا عصابات أو مسلحين. كان يمكن استخدام مليون طريقة أخرى لوقف المركب والمهرّبين. علم طرّاد الجيش بوجود نساء وأطفال على المركب، ومن يتسبب بهذه الحادثة ليراجع ضميره. عندها لن يتمكن من النوم".
ويشير إلى أن "الروايات كثيرة لكن النتيجة واحدة. كانت مهمة الجيش مطاردة المهربين، لكن كان يفترض أن يفعل ذلك من دون إصابات. واضح أن تقصيراً كبيراً حصل في تنفيذ عمليات البحث والإنقاذ، فصهري بقي ساعة في المياه قبل انتشاله. ومن الضروري إجراء تحقيق في ما حصل لحفظ كرامة الشهداء على الأقلّ. سمعت أن المبلغ الذي دفع هو 7 آلاف دولار للشخص الواحد، لكنني أسأل كيف جلبوا هذه المبالغ. هل استدانوا تمهيداً لردها عندما يصلون إلى ألمانيا، ومن سيعطيهم هذه المبالغ أصلاً في لبنان. الأكيد أنهم قرروا المغادرة بسبب الفقر، فشقيقتي كانت حبلى ووضع جنينها دقيق ويحتاج إلى علاج وتكاليف باهظة، وحتى إذا أرادت السفر في شكل شرعي لا تستطيع الحصول على جواز سفر قبل أشهر".
ويلفت سيف الدين إلى أن "ما حصل يمكن أن يضعه البعض في خانة المهربين، لكن ما جرى جريمة بكل معنى الكلمة، ولا يجوز أن يغرق مركب أمام طرّادين يفترض أن أفرادهما يعلمون جيداً أساليب المطاردة، وإنقاذ الناس على متنه. هذا إهمال. تواجد على المركب أشخاص لديهم عائلات تنتظرهم، وليسوا غنماً".