تظهر تداعيات انهيار القطاع الصحي في لبنان جليّة من خلال حالات التوتّر التي تُسجّل بين المرضى من جهة والمستشفيات والأطباء والصيدليات من الجهة الأخرى.
لم تكتمل فرحة اللبنانيين بانخفاض المؤشرات الوبائية وارتفاع نسبة المناعة المجتمعية التي ساهمت في تخفيف الضغط على المستشفيات بالتزامن مع تكثيف حملات التحصين ضدّ كوفيد-19، إذ باتوا أمام كابوسٍ جديدٍ غير فيروس كورونا الجديد بفعل انهيار القطاع الصحي في البلاد. وبدأت تداعيات هلاك النظام الصحي و"ترشيد الخدمات الطبية الاجتماعية والفحوص المخبرية" تُترجم في مواجهات يرتفع منسوبها بين المرضى وإدارات المستشفيات أو الأطباء، حيث سجّلت في الفترة الأخيرة إشكالات عدّة مرتبطة بإجراءات جديدة تتّبعها المستشفيات لاستقبال المرضى وارتفاع الفاتورة الطبية.
ومن تلك الإشكالات ما وقع في قسم طوارئ مستشفى "المظلوم" في طرابلس، شمالي لبنان، على خلفية رفض المستشفى استقبال مريضة. وقد تطوّر الأمر إلى تضارب وتحطيم للواجهة الزجاجية للمدخل قبل أن يتدخّل عناصر الأمن ويعيدوا الهدوء إلى المكان. وأوضحت إدارة المستشفى أنّ "المريضة حضرت باكراً إلى قسم الولادة في المستشفى بناءً على موعد مسبق، وذلك للتحضير لولادتها، ولكن لأسباب خاصة بالأهل تأخّر فتح ملف الدخول. وبينما ذوو المريضة يتابعون مع الإدارة معاملات الدخول، حضرت إلى القسم سيدة بحالة ولادة طبيعية طارئة لتكتمل معها قدرة الطابق الاستيعابية. فتمّ الاعتذار من المريضة والتنسيق مع الطبيب المعالج لتعويضها بأفضل الطرق. فكان اقتراح الطبيب أن يتمّ تحويلها إلى مستشفى آخر في حال إصرار الأهل على الولادة اليوم أو يمكن تأجيل الدخول لبضعة أيام في حال تعذّر تأمين سرير طالما أنّ الولادة ما زالت في مرحلة التحضير".
ويلفت نقيب المستشفيات الخاصة في لبنان سليمان هارون لـ"العربي الجديد" إلى إنّ "الإشكالات واردة للأسف، نتيجة الأزمة التي تواجهها المستشفيات وقلق اللبنانيين على صحتهم والضغوطات التي يعيشونها، بالإضافة إلى ما بات بتكبّده المريض عند دخوله المستشفى من مصاريف إضافية على صعيد تسديده مبالغ تعود إلى فوارق أسعار المستلزمات الطبية، بعدما توقّف الوكلاء عن تسليمها إلى المستشفيات وفق سعر الصرف الرسمي للدولار الأميركي (1517 ليرة لبنانية) في وقتٍ تجاوز سعر الصرف في السوق السوداء 15 ألف ليرة لبنانية، وهو ما يؤدّي إلى مشاكل بين المريض والمستشفى".
ويوضح هارون أنّ "المستشفيات لا تمتنع عن استقبال المرضى، كذلك فإنّ الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لم يتوقّف عن إعطاء الموافقات الاستشفائية إنّما يحاول ضبط الدخول غير المبرّر وتحديد الحالات الطارئة التي تستوجب الاستشفاء. فثمّة حالات قد يُستعاض دخولها إلى المستشفى بفحوصات خارجية مثلاً، وهو إجراء لضمان استمرارية القطاع الاستشفائي". يضيف هارون أنّ "من أبرز الأزمات التي تعاني منها المستشفيات والقطاع بشكل عام، النقص في المستلزمات الطبية والأدوية وكواشف المختبر، عدا عن أزمة غسيل الكلى والبنج وما إلى ذلك. وهي أمور قيد المعالجة بين وزارة الصحة العامة ومصرف لبنان، ومن المفترض إيجاد حلّ سريعٍ لها بعدما أصبحنا نشهد غياب الالتزام بالأسعار الرسمية، ما يُظهر فشل سياسة الدعم وأهمية نقل الدعم من التجّار إلى الجهات الضامنة".
في سياق متصل، يقول رئيس قسم القلب في المركز الطبي للجامعة اللبنانية الأميركية - مستشفى رزق في بيروت، الدكتور جورج غانم، لـ"العربي الجديد" إنّه "من الطبيعي وقوع مشاكل بين المستشفيات والمرضى انطلاقاً من تردّي الأوضاع على مختلف المستويات التي تتأثّر بها القطاعات، بما فيها القطاع الاستشفائي الذي يواجه أزمة نقص حاد في المستلزمات وغلاء كبيرا في أسعارها". ويعبّر غانم عن استغرابه قرار الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، متسائلاً "مَن يقرّر ما هي الحالات التي يُسمح بدخولها إلى المستشفى وتغطيتها أم لا؟".
يضيف غانم: "على الرغم من علمنا بالمشاكل المالية التي يمرّ بها الصندوق والمال الذي لا يُدفع له، بيد أنّ الإدارة يجب أن تتطلّع إلى أسس حديثة وعلمية لإدارة القطاع الصحي بالتعاون بين الجميع، خصوصاً الأطباء والمستشفيات، من دون حماية المصالح الخاصة". ويشدّد غانم على أنّ "الصندوق يتذرّع بأنه يريد تنظيم العمل الاستشفائي لكنّه يحتاج إلى أسس لذلك، وإلى أطباء مراقبين، وملفات طبية للمرضى تُدرس بشكل دقيق. فثمّة حالات قد لا تكون طارئة أو حرجة لكنّها تتطلب متابعة وقد يحصل معها مضاعفات. من هنا أهميّة الملف الطبي لكلّ حالة".
يُذكر أنّ مستشفيات كثيرة في لبنان عمدت إلى إقفال مختبراتها نتيجة النقص الحاد في الكواشف المخبرية، فيما يقوم عدد منها باستقبال المرضى الذين يخضعون إلى الاستشفاء فيه والذين يملكون ملفات طبية لديه، مع رفض استقبال أيّ مريض جديد. وهو ما يدفع المريض في أحيانٍ كثيرة إلى التنقّل بين منطقة وأخرى بحثاً عن مستشفى يستقبله.
من جهة أخرى، يتحدث أحد الصيادلة الذي يملك صيدلية في جونية (شمال بيروت) وقد فضّل عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد" عن "إشكالات يومية باتت تُسجَّل بيني وبين الزبائن على خلفية انقطاع الأدوية". ويروي كيف أنّ أحد الأشخاص هاجمه وتعامل معه بعنف لأنّه لم يجد الدواء الذي يبحث عنه لزوجته التي تعاني من مرض السرطان. ويؤكد الصيدلي نفسه: "أتفهّم ألم الناس وأوجاعها، وثمّة صيدليات تخزّن فعلاً الأدوية في انتظار رفع الدعم عنها لبيعها بأسعار أعلى وتحقيق أرباح طائلة، وثمّة عمليات تهريب بالتأكيد. لكن في المقابل، ثمّة صيدليات تعاني من فقدان الدواء والنقص في الأسواق، لا سيّما تلك المرتبطة بالأمراض المزمنة والمستعصية، وهو ما يدفعها إلى بيع علبة واحدة للمريض بهدف تأمين الدواء لعدد أكبر من المرضى".
تجدر الإشارة إلى أنّ الصيدليات لجأت في أكثر من مرّة إلى الإضراب العام والإقفال القسري لحلّ الأزمة وترشيد دعم مصرف لبنان للأدوية، من خلال لائحة تحدّد الأولويات ومنع إعطاء أدوية من دون وصفة طبية والعمل على تنظيم القطاع بسياسات شاملة ومدروسة.
وقد وُجّهت أخيراً دعوات إلى المنظمات الدولية لمساعدة لبنان في المجال الصحي وتسلّم زمام الأمور لوضع حدّ للفساد والتهريب من خلال إرسال منظمة الصحة العالمية لجنة تقصّي حقائق إلى لبنان. وهو ما أكّده الدكتور هادي مراد، عضو الهيئة التأسيسية لمجلس أطباء "القمصان البيض" لـ"العربي الجديد". وحذّر مراد من "أنّنا سوف نكون أمام مشاهد مرعبة أمام المستشفيات، لن تقتصر على الإشكالات والمشادات الكلامية، إنّما ستصل إلى حدّ وفاة مرضى لعدم استقبالهم أو عجزهم عن تأمين تكاليف العلاج وانقطاع الأدوية وتوقّف بعض الخدمات الطبية. من هنا أطلقنا جرس الإنذار ورفعنا نداءً دولياً عاجلاً".