يعاني القطاع الطبي العام في سورية نقصاً كبيراً في الكادر الطبي في مختلف التخصصات، وخصوصاً أطباء الجراحة. واضطرت معظم المستشفيات خلال سنوات الحرب وما زالت إلى إيقاف العمليات الجراحية "الباردة" ومن ضمنها جراحة الأعصاب والعظام والتوليد وتلك الداخلية والغدد وغيرها من العمليات غير الإسعافية. وهكذا فتحت المجال واسعاً أمام عمل المستشفيات الخاصة والفساد في المستشفيات الحكومية.
وتكثر الحاجة إلى أطباء التخدير، ويفتقر العديد من المستشفيات الحكومية إلى طبيب تخدير مناوب أو مداوم. وفي محافظة السويداء جنوب سورية، يزيد عدد السكان عن 300 ألف نسمة، فيما عدد أطباء التخدير المتعاقدين مع مديرية الصحة لا يتجاوز السبعة أطباء، ويتولون إجراء عمليات جراحية في المستشفيات الحكومية. وهاجر خمسة أطباء ليتم الاعتماد على أطباء التخدير في العديد من العمليات على الرغم من خطورة الأمر.
ويقول أحد ممرضي مستشفى السويداء العام لـ"العربي الجديد": "يعتمد المستشفى أحياناً على مساعدي الأطباء من خريجي معاهد التخدير. وهؤلاء يقومون بعمل شاق أحياناً ويتحملون مسؤولية كبيرة في مقابل أجر مادي زهيد. في المقابل، ترتفع أجور أطباء التخدير في المستشفيات الخاصة لتتجاوز أحياناً أجور أطباء الجراحة نتيجة الحاجة الماسة إليهم. ومن الطبيعي أن يكون عملهم في المستشفيات الخاصة على حساب تلك الحكومية بسبب الأجور المتدنية التي يتقاضونها من وزارة الصحة".
وتتراوح أجور أطباء التخدير الشهرية في المستشفيات الحكومية بين 200 و235 ألف ليرة سورية، وتزيد بالمقارنة مع رواتب الأطباء الآخرين بسبب الحوافز والمكافآت لتصل أحياناً إلى 200 في المائة. بينما يقل راتب المساعد عن 150 ألف ليرة ما يعادل راتب الممرض، وهو لا يكفي بدل مواصلات.
في المقابل، تؤمن المستشفيات الخاصة أجوراً جيدة لكل عملية تخدير تصل أحياناً إلى 200 ألف ليرة، الأمر الذي يشجع الأطباء والمساعدين على العمل في القطاع الخاص أو السفر. وتبين إحصائيات وزارة الصحة أن نسبة 70 في المائة من أطباء التخدير المتواجدين في سورية باتوا في سن التقاعد.
وفي تصريح لصحيفة "الوطن"، قالت رئيسة رابطة التخدير في نقابة الأطباء زبيدة شموط، إن الكادر الطبي خسر 30 في المائة من أطباء التخدير، وتحتاج سورية إلى أكثر من ألف طبيب تخدير لتعويض العجز والحاجة الملحة لدى القطاع الصحي. وبررت هذا النقص بالأجور المتدنية للأطباء واضطرارهم للعمل في المستشفيات الخاصة أو السفر على الرغم من أن الرابطة قد أقرت أجوراً مناسبة لهم قبل أشهر. ولا تزال الوزارة ترجئ إقرارها. وتدعي أن هذا التأخير في إقرار التعرفة يصب في مصلحة المستشفيات الخاصة والعمل الخاص عموماً.
إلى ذلك، يقول أحد الأطباء الاختصاص في السويداء، وقد فضل عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، لـ "العربي الجديد"، إنه بعد 23 سنة خدمة في المستشفيات الحكومية، فإن راتبه لا يتجاوز 140 ألف ليرة سورية، لافتاً إلى أنه لا يعتمد على الراتب. ويسأل: "كيف هو الحال بالنسبة لأطباء التخدير الذين يعوضون بحوافز تصل إلى 200 في المائة، لكن في الوقت القريب لن يتواجد طبيب واحد محترف في المستشفيات الحكومية، وخصوصاً في حال وجدوا فرص عمل في المملكة العربية السعودية". يضيف أن "الطبيب الأهم تقاعد وانتقل للعمل في المستشفيات الخاصة. وفي الوقت الحالي هناك سبعة أطباء في المحافظة". ويؤكد أن الفترة الماضية شهدت سفر خمسة أطباء تخدير من بينهم طبيبة تخصصها نادر على مستوى سورية، وسفرها خسارة طبية وعلمية كبيرة.
ويختم حديثه متسائلاً: "هل يعقل أن تتخلى دولة عن مواطنيها لأنهم يجنون المال أكثر من مواطنين آخرين، وتحرمهم من الدعم؟".
ومن القصص التي تختصر الواقع الحالي للقطاع الصحي في سورية، قصة أحد المرضى في العاصمة دمشق، وقد استنفرت عائلته لإحضار طبيب التخدير كي يدخل غرفة العمليات لإجراء جراحة في العمود الفقري. ويروي لـ"العربي الجديد" أن الجراحة أرجئت مرتين لعدم وجود طبيب تخدير. وقبل الموعد الثالث، تواصلوا معه وقدموا له أجوراً رمزية تعادل مصاريف الوقود لسيارته كي يضمنوا حضوره.