تحمّلت السوريات أعباء الصراع الدائر في سورية كما الرجال والأطفال، واستحققن لقب الشريك في الألم والحزن والنزوح والموت، كما دفعن ثمناً باهظاً في مناطق النزاع على يد معظم الأطراف، من الاستغلال إلى التحرش وصولاً إلى الخطف والاغتصاب والاعتقال والقتل.
وتشير إحصاءات غير رسمية إلى أنه بعد مرور 12 سنة على بدء الثورة السورية، فإن أعداد الضحايا والمعتقلين والمغيبين والنازحين والمهاجرين من الرجال تتجاوز أعداد النساء، لكنها في الوقت نفسه تؤكد أن معظم النساء في مختلف مناطق البلاد هن ضحايا للفقر والنزوح والتشرد.
وحذرت المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين، في تقرير سابق، من أن عشرات آلاف النساء السوريات وقعن في دائرة العزلة والقلق، وأنهن يكافحن من أجل مواصلة البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف قاتلة. وأسهبت معظم التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية في نقل معاناة السوريات خلال الحرب، من دون أن تغفل آلام الفقد التي تحملتها النساء، خصوصاً الأمهات، خلال النزاع السوري.
وجدت السورية مها أبو رسلان في انتفاضة السويداء الفرصة الغائبة منذ وفاة شقيقها شادي في مُعتقلات النظام. تقول لـ"العربي الجديد": "كان شادي قادماً من ليبيا عندما اعتقلته أجهزة النظام على أحد الحواجز الأمنية عند الحدود اللبنانية السورية، وكنّا قد هيأنا مراسم زواجه، وجهزنا بطاقات الدعوة، ولم نُدرك يومها أننا سنوزعها في يوم مأتمه. تحمل نحو 20 يوماً من التعذيب، ولم يُسمح لنا أن نعرف أي شيء عنه بعد سنوات من الغربة، ولم يتح لنا حتى الصراخ بعد أن عادت جثته، كان علينا أن نبكيه بصمت، ونتألم بصمت. حملنا جراحنا ورحلنا بعيداً عن القرية هرباً من الأحزان، وخوفاً على من وقفوا معنا في مصيبتنا، أو تعاطفوا معنا من الأقارب والأصدقاء".
تضيف: "عدت بعد عشر سنوات مع عائلتي إلى القرية لنشارك في الانتفاضة الشعبية، ونحتفل بحرية أخي ورفاقه. اليوم يمكنني حمل صوره بكل فخر واعتزاز، وأشعر في كل لحظة أن روحه ارتاحت أخيراً في العالم الآخر".
لم تنقطع مها يوماً عن حضور التظاهرات في ساحة الكرامة بوسط مدينة السويداء؛ وهناك التقت نساء فقدن أزواجهن أو أبناءهن أو أشقاءهن خلال السنوات الماضية، بعضهم فُقدوا في معتقلات النظام، وآخرون دفاعاً عن النظام، أو في القتال على أعتاب المحافظة، وهناك من فُقد أو قُتل على أيدي العصابات المحلية. جميعهن يحملن صور ضحايا، ويتهمن النظام بالمسؤولية عن قتلهم، كما ان جميعهن تعرضن للظلم، وانخرطن في دوامة الموت، ورحل ذووهن تاركين خلفهم الألم والأحزان.
تقول إحدى المشاركات في الانتفاضة لـ"العربي الجديد": "رحل أخي بعد فصله من العمل ومنعه من السفر بأشهر قليلة. لم يكن يُدرك، بعد أن قضى 18 عاماً على مقاعد الدراسة للحصول على شهادة الهندسة، أن عمله في إحدى مؤسسات الدولة يدور حول التغاضي عن السرقات والمشاركة في الفساد والصمت عن تعطيل التجهيزات الخدمية وبيع مخصصات المؤسسة من الوقود. عندما تكلم عما يحدث، تقاذفته الأجهزة الأمنية، فأصيب بأمراض صحية ونفسية وتوفي. اليوم فرصتي للوقوف مع مئات النساء للمطالبة بإسقاط هذا النظام الذي قتل السوريين في بيوتهم، وفي أماكن العمل، وفي المعتقلات. لأول مرة منذ وفاة أخي أخلع ملابس الحداد السوداء لأحمل صوره إلى جانب رفاقه الضحايا".
وتقول والدة أحد من قضوا في معتقلات النظام السوري لـ"العربي الجديد"؛ إنه "في بداية اعتقاله عام 2013، لم أكن أفقه شيئاً في السياسة، وكنت أصدق كل ما أشاهده على شاشة التلفزيون الحكومي مثل معظم الأمهات اللواتي أفنين عمرهن في رعاية العائلة. عندما استوعبت أسباب الاعتقال، صُدمت بمقدار جهل المجتمع، ومواقفه النابعة من الخوف، وفهمت سبب تجاهل الأقارب والجيران آلامي وأحزاني، وابتعاد المعارف والأصدقاء عني، وعدم دعمهم لي في أزمتي".
وتضيف السيدة السورية التي طلبت عدم ذكر اسمها: "كان عليَّ تحمل النظرات والهمسات واللوم، ومواقف العداء المبطنة والمُعلنة، واتهامي بسوء التربية بدلاً من محاولة دعمي في أوقات حزني وخوفي، لكني لم أفقد أملي في الإفراج عن ابني، ودعوت الله ما استطعت، واستنجدت بكل الأنبياء والصالحين، وكل من استطعت الوصول إليه من المسؤولين. بعد سبع سنوات على إبلاغي بوفاته (بجلطة قلبية) واستلام بطاقته الشخصية، ما زلت أنتظره، وآمل أنه سيعود".
لم تستطع الأم السورية أن ترى جثمان ولدها الميت، ولم تستطع أن تودّعه قبل الدفن، وهذا ما يجعلها تظن أنه لا يزال حياً، رغم أنها تعيش منذ سنوات في دوامة الحزن والوجع.