رُهاب المهاجرين... ملاحقة أمنية وترحيل في تونس

03 مارس 2023
ينتظرون ترحيلهم (العربي الجديد)
+ الخط -

"أشعر بخوف كبير وأخشى أن أضع مولودي في الشارع. أنا حامل في الشهر التاسع ولم يعد لدي بيت يأويني بعدما طردنا صاحب البيت في حي سيدي صالح القريب من العاصمة تونس". تنتظر كانيا أبيني (27 عاماً)، مع عشرات الإيفواريين من أبناء بلدها دورها أمام سفارة ساحل العاج لتسجيل اسمها على قائمة المواطنين الذين يعتزم بلدها ترحيلهم خلال الأيام المقبلة، بعدما أصبح وجود المهاجرين السريين غير مرغوب به في تونس، وتقول لـ"العربي الجديد"، إنها ستقضي ليلتها في العراء أمام السفارة، وتخشى أن يدركها المخاض ولا تتمكن من الذهاب إلى المستشفى للولادة لأنها ستكون عرضة للتبليغ عنها من قبل الشرطة، وقد تواجه السجن بتهمة الإقامة في تونس بطريقة غير شرعية.
وتقول أبيني إن الأيام التي تعيشها هي الأصعب في حياتها، إذ لم تشعر يوماً بالخوف إلى هذا الحد، وخصوصاً أن زوجها لا يزال عالقاً في محافظة صفاقس، ولا يستطيع الوصول إليها خوفاً من الملاحقة الأمنية في ظل تقييد حركة المهاجرين بين المحافظات. 
مشاعر الخوف هذه تتشاركها أبيني مع عدد كبير من أبناء بلدها الذين تجمعوا أمام سفارة ساحل العاج، مطالبين بترحيلهم في أقرب وقت ممكن، بعدما أصبحت غالبيتهم بلا مأوى وباتوا ممنوعين من العمل، وتقول إنها عملت منذ قدومها إلى تونس عام 2021 في الخدمة المنزلية، وكانت تجد معاملة جيدة من الأسر التي عملت لديها، إلا أن الوضع تغيّر كثيراً خلال الأيام الأخيرة بعد الحملة التي شنتها السلطات على المهاجرين السريين في تونس.
وفيما ما زالت أبيني وآخرين ينتظرون الترحيل، استقبل رئيس المجلس العسكري الحاكم في غينيا الكولونيل مامادي دومبويا على أرض المطار في كوناكري، أول من أمس، حوالي خمسين من مواطنيه لدى عودتهم من تونس على متن طائرة استأجرتها الحكومة لإجلائهم، بعدما تصاعدت الهجمات ضدّ المهاجرين الأفارقة. وهذه أول رحلة تنظّمها الحكومة الغينية لإجلاء مواطنيها من تونس منذ الخطاب الذي ألقاه الرئيس قيس سعيّد قبل أسبوع، ودعا فيه إلى اتّخاذ "إجراءات عاجلة" ضدّ المهاجرين الأفارقة المقيمين بصورة غير نظامية في بلده، وقال إنّ وجود هؤلاء هو مصدر "عنف وجرائم" وجزء من "ترتيب إجرامي" يهدف إلى "تغيير التركيبة الديموغرافية لتونس".  
وأثار الموقف الرسمي التونسي حيال وجود المهاجرين السريين جدلاً كبيراً. كما واجه سعيد انتقادات بلغت حد اتهامه بـ"العنصرية" بعد الحديث عن مخطط توطيني يجري الإعداد له. وحذّر الاتحاد الأفريقي من "خطاب الكراهية العنصري" الذي يمكن أن يسبب أذى. وقالت مفوضية الاتحاد الأفريقي، في بيان، إنها دعت ممثل تونس إلى اجتماع عاجل لتسجيل "صدمة وقلق عميقين من شكل ومضمون التصريحات نيابة عن الكتلة القارية". وأوضح رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي محمد أن "الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي ملزمة بمعاملة جميع المهاجرين بكرامة، من أي مكان جاؤوا منه، والامتناع عن خطاب الكراهية العنصرية الذي يمكن أن يعرض الناس للأذى، وإعطاء الأولوية لسلامتهم ولحقوق الإنسان".
لكن وزير الخارجية التونسي نبيل عمّار أكد أنّ تونس بعثت برسائل طمأنة في ما يتعلّق بقضية المهاجرين الأفارقة من دول جنوب الصحراء لكنّها تستبعد الاعتذار، أضاف أنّ "المهاجرين غير القانونيين مدعوون للعودة إلى ديارهم، ولكن مع احترام حقوقهم وكرامتهم"، لافتاً إلى أنه "يحق للسلطات التونسية أن تنبّه، عندما يزداد تدفّق المهاجرين غير النظاميين، مع كل العواقب التي قد تترتّب على ذلك".

مخطط استيطاني

ويرفض المهاجرون من دول جنوب الصحراء اتهامهم بارتكاب جرائم أو الإعداد لمخطط استيطاني في تونس، معتبرين أن الهجرة حركة طبيعية للبشر في كل دول العالم، وكانت وستظل قائمة كما يؤكد المهاجر الإيفواري ساندي سييدي، ويقول لـ"العربي الجديد"، إنه يعمل في تونس في قطاع التعدين منذ أكثر من ثلاث سنوات، ويقيم بشكل غير قانوني مع أسرته المؤلفة من زوجته وطفل لم يتجاوز العام. ويرى المهاجر الإيفواري الذي يستعد بدوره للعودة إلى بلاده ضمن خطة الترحيل التي أعلنت عنها سفارة ساحل العاج، أن "هجرة البشر جنوباً وشمالاً ستظل قائمة"، مشيراً إلى أن "عدداً من التونسيين يعملون في دول جنوب الصحراء ومرحب بهم في هذه الدول"، يضيف: "قد يصبح الأمر مختلفاً مستقبلاً، ويؤدي ترحيل المهاجرين بهذه الطريقة المهينة في تونس إلى نقل العنصرية إلى دول جنوب الصحراء التي تستضيف تونسيين"، معتبراً أن "عواقب رفض الآخر والتمييز على أساس لون البشرة كانت دائماً غير محمودة".
ويؤكد سييدي، وهو ينظر بأسف إلى خيمة صغيرة نصبت قبالة سفارة بلده لجأ إليها المهاجرون الذين طردوا من مساكنهم، أنه كان يعتقد طويلاً أن تونس ليست بلداً عنصرياً، وخصوصاً أنه لم يتعرّض سابقاً لمضايقات، وعمل في العديد من ورش البناء في مقابل الأجر ذاته الذي يتقاضاه زملاؤه من التونسيين، وهو نحو 40 ديناراً (نحو 13 دولاراً) يومياً، كما ينتقد بشدة عدم إمهال المهاجرين الوقت لتسوية أوضاعهم والمغادرة من دون مضايقة أمنية، مشيراً إلى أن الهجرة السرية نحو إيطاليا ستكون خياره إذا لم يتمكن من العودة إلى بلاده سريعاً.

الصورة
بات العديد من المهاجرين في الشارع (العربي الجديد)
بات العديد من المهاجرين في الشارع (العربي الجديد)

أرقام متضاربة

تختلف الأرقام حول أعداد المهاجرين السريين في البلاد، وتقدرهم المنظمات المدنية بنحو 40 ألفاً، بينما تشير أطراف أخرى إلى أنهم "يتجاوزون هذا الرقم بمئات الآلاف، وزحفهم يشكل خطراً على تغيير التركيبة السكانية للبلاد". ويتبنى الحزب القومي التونسي (تأسس عام 2018)، محاربة ما يسميه "الاستيطان الإجصي"، ويرمز مصطلح "إجصي" إلى المهاجرين الذين يتحدرون من دول جنوب الصحراء، معتبراً أن "أطرافاً دولية تسعى إلى تحويل تونس إلى منصة دائمة لاستقبال المهاجرين من جنوب القارة لتغيير التركيبة السكانية للبلاد، ولا سيما أن عددهم يقترب من المليون".
لكن الأرقام الرسمية بعيدة كل البعد عما تتداوله المنظمات. وبحسب تقرير المسح الوطني للهجرة الدولية الصادر عن المعهد الوطني للإحصاء عام 2021، فإن العدد التقديري للسكان الأجانب المقيمين في تونس هو حوالي 58.990 نسمة. ويعرّف التقرير المهاجر أو المقيم الأجنبي في تونس بأنه الشخص الذي أقام في تونس لمدة ستة أشهر أو أكثر، أو ينوي البقاء لأكثر من ستة أشهر، بغض النظر عن حالة إقامته، سواء أكان ذلك بشكل نظامي أم لا، ويذكر أن عدد المواطنين الأفارقة باستثناء دول المغرب العربي يبلغ 21.466 فرداً.

من جهته، يرى عضو البرلمان السابق والناشط في إيطاليا مجدي الكرباعي أن "الغاية من تهويل أرقام المهاجرين في تونس هي تنفيذ مخطط لكبح تدفقهم بالاتفاق مع الجانب الأوروبي"، ويقول: "انتقلت تونس من كونها حارسة للحدود الأوروبية إلى شرطة عنصرية لحماية شمال المتوسط من تدفق المهاجرين". يضيف الكرباعي في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "المباركة الرسمية لوزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني للخطوات التي اتخذتها تونس بشأن ملف الهجرة، يؤكد حرص سلطات تونس على تنفيذ خطة أوروبية لمنع تدفق المهاجرين من خلال استخدام كل الوسائل، بما في ذلك تأجيج الخطاب العنصري ضدهم" .
ويتحدث عن "تسلسل زمني في الأحداث التي سبقت وتلت الحملة التونسية على المهاجرين، إذ هيأت أوروبا الأرضية لذلك من خلال بعث رسائل للسلطة التونسية بدعم البلاد لدى صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل تنتظره بقيمة 1.9 مليار دينار".
ويرى الكرباعي أن "الدعم الأوروبي لملف تونس تقابله حملة عنصرية ضد المهاجرين"، مشيراً إلى أن "أوروبا تتجنّب الحملات العنصرية خوفاً من انتقادها، إلا أنها تكلف دولاً أخرى القيام بذلك"، ويُذكّر بـ"مصادقة تونس في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 على قانون يجرّم العنصرية، إلا أنه لم يفعّل ضد من يستعملون الفضاءات العامة ووسائل التواصل الاجتماعي لاستهداف المهاجرين على أساس اللون والانتماء بالدرجة الأولى". 

الصورة
تختلف الأرقام حول أعداد المهاجرين السريين في البلاد (العربي الجديد)
تختلف الأرقام حول أعداد المهاجرين السريين في البلاد (العربي الجديد)

ويعرّف القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2018 في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، والذي يتعلق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، بأنه "كل تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني أو غيره من أشكال التمييز العنصري على معنى المعاهدات الدولية المصادق عليها، والذي من شأنه أن ينتج عنه تعطيل أو عرقلة أو حرمان من التمتع بالحقوق والحريات".

تمييز عنصري

إلا أن المهاجر المالي إيسمي سعدي، الذي جاء إلى سفارة بلاده بصحبة مشغّله التونسي بحثاً عن حلول لتسوية إقامته، فيقول إن "المهاجرين من دول جنوب الصحراء مستهدفون على أساس اللون لا غير"، يضيف في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنه يعمل في قطاع الميكانيك ويحمل شهادة تخصص، ما جعله يحظى بثقة مشغله. لكنه أصبح مجبراً على المغادرة لتجنّب المضايقات الأمنية، وخصوصاً أنه سبق له أن سجن مدة شهر في سجن السرس بمحافظة الكاف بتهمة اجتياز الحدود خلسة.
يضيف: "يجب أن تمنح السلطات التونسية المهاجرين مهلة لا تقل عن 3 أشهر لتسوية أوضاعهم والمغادرة في ظروف آمنة"، لافتاً إلى أن "عدداً من الماليين لم يتمكنوا من التسجيل على قائمة المرحلين لدى السفارة بسبب صعوبات تعترضهم في التنقل من محافظات أخرى نحو العاصمة".
من جهته، يقول مشغله حسن معلّى إنه حضر لسفارة دولة مالي من أجل الوقوف إلى جانبه ومحاولة إيجاد صيغة قانونية لإبرام عقد تشغيل معه يسمح له بمواصلة الإقامة في تونس، مشيراً إلى أن الطريق للحصول على إقامة في تونس للمهاجرين قد يكون صعباً، وسيبذل كل جهده من أجل ضمان إقامة قانونية للمهاجر المالي الذي يعمل في محله.

تعاطف

وعلى الرغم من القلق الكبير من تنامي مظاهر العنصرية في تونس، إلا أن حجم التعاطف مع الأفارقة كان كبيراً. ونظم نشطاء حقوقيون مسيرة أعربوا خلالها عن رفضهم للانتهاكات التي تستهدف مهاجري جنوب الصحراء في تونس، بعد تصاعد وتيرة التحريض ضدهم والانتهاكات التي مورست بحقهم. كما أعرب أساتذة وطلاب في الجامعات عن دعمهم المطلق للطلاب الأفارقة في تونس، مطالبين بتوفير الحماية لهم حتى يتمكنوا من الوصول إلى جامعاتهم من دون مضايقات، بعدما دعت جمعية الطلبة والمتربصين الأفارقة في تونس منظوريها إلى التزام بيوتهم والدراسة عن بعد خوفاً على سلامتهم الجسدية.

وأعلنت مائة منظمة وشخصية حقوقية وإعلامية عن تأسيس "جبهة مناهضة للفاشية"، قالت إنها "مفتوحة لكل القوى المناضلة، أفراداً ومجموعات وتنظيمات، لمقاومة السياسات والخطاب والممارسات العنصرية والاستبدادية بكل الوسائل".
من جهته، يقول المتحدث باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر إن "صناعة التضليل على مواقع التواصل الاجتماعي التي أججت العنف ضد المهاجرين واللاجئين وخلقت حالة من الفزع في صفوفهم ستدفعهم إلى مغادرة تونس بأي طريقة، بما في ذلك اللجوء إلى حلول الهجرة السرية بحراً". يضيف عمر في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "ترهيب المهاجرين سيجعلهم فريسة لشبكات الاتجار بالبشر التي تستغل أوضاعهم من أجل تكثيف رحلات الهجرة السرية"، مرجحاً أن يكون النصف الأول من العام الحالي مأساوياً في ما يتعلق بأعداد ضحايا الهجرة في ظل غياب حلول العودة الطوعية، يضيف أن "عام 2023 سيكون مأساوياً على مستوى الهجرة غير النظامية بسبب غياب منظومة فاعلة للبحث والإنقاذ في عرض البحر".
يشار إلى ارتفاع نسبة خطاب الكراهية ضد المهاجرين الأفارقة على وسائل التواصل الاجتماعي. وانطلقت حملة الحزب القومي التونسي ضد وجود أفارقة جنوب الصحراء في البلاد منذ شهر سبتمبر/ أيلول 2022. وخلال الأيام الأخيرة، شهدت الحملة التي يقودها الحزب رواجاً كبيراً. 

المساهمون