دروس مستفادة من مأساة الفيضان في درنة الليبية

10 يناير 2024
دمّر الفيضان مساحات شاسعة في مدينة درنة (كريم صاحب/فرانس برس)
+ الخط -

في ليلة 11 سبتمبر/أيلول 2023، غُمرت مدينة درنة الساحلية الليبية جزئياً بعدة أمتار من المياه. خلافاً لتوقعات السلطات، لم يأتِ الغمر من البحر، بل من الداخل. انهار سدّ درنة الواقع على بعد حوالى 15 كيلومتراً من منبع وادي درنة، حيث لم يصمد أمام العاصفة دانيال، وسيول الأمطار التي هطلت على المنطقة.

لقي عدة آلاف من الأشخاص حتفهم في لحظات، إذ جرفتهم الأمواج العاتية، وسحقتهم البنايات المنهارة أو الحطام المتناثر، وغرق آخرون كانوا قد جُرفوا إلى البحر، بينما بقي آخرون عالقين تحت الأنقاض قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة، وكان على نحو 30 ألف ناجٍ مغادرة منازلهم بحثاً عن مأوى أكثر أماناً. تأثر "المجتمع الدولي"، وأرسلت طائرات محملة بالعتاد وفرق الإنقاذ، ثم سرعان ما نُسيَ كل ذلك، وتجسيداً للأزمة المعروفة في المنطقة، أُغلِق المكان بسرعة في وجه الصحافيين.
تكشف كل كارثة عن نقاط ضعف ناجمة عن سياق سياسي واقتصادي واجتماعي. والكارثة الطبيعية التي سبّبت مأساة درنة، متأثرة بشدة بالعامل البشري، لأن تغير المناخ الناجم عن العامل البشري هو الذي كان سبباً في القوة العاتية للعاصفة دانيال. تقع درنة في شمال شرق ليبيا، عند سفح الجبل الأخضر، وترتفع إلى حوالى 850 متراً في جزئها الأوسط، وقد طُوِّر السهل الساحلي الواقع بين هذه الجبال وبحر ليبيا منذ العصور القديمة، حيث يستفاد من مناخ مواتٍ وهطول أمطار يصل إلى 550 ملم/سنة، ما يجعلها المنطقة الأكثر خصوبة في البلاد. الأودية عديدة وعميقة. وليس من غير المألوف أن نشهد خلال العواصف الشتوية هطول أمطار غزيرة تؤدي إلى تضخم هذه الأودية وفيضانها. 
تقع مدينة درنة عند مخرج الوادي، وقد استفادت من هذا الوضع وكانت ضمن أكبر أربع مدن في البلاد ديمغرافياً عند نهاية النظام الملكي، واستفادت في بداية عهد معمر القذافي من تَهييئات بهدف تعزيز التطور الزراعي والصناعي. في هذا الصدد بُنيَ سدّان على وادي درنة بين 1973 و1977، وأوكل المشروع إلى الشركة اليوغسلافية "هيدرو-تكنيكا" لحساب وزارة الزراعة.

كشفت كارثة درنة عن نقاط ضعف ناجمة عن سياق سياسي واقتصادي واجتماعي

وفقاً لموقع الشركة على الإنترنت، فإن أكبر السدود المسمى "أبو منصور"، وهو اسم منبع ماء، يبلغ ارتفاعه 75 متراً، بسعة تخزين 18 مليون م3. أما ارتفاع السد الثاني "البلاد"، فهو 45 متراً بسعة 1.5 مليون م3. فضلاً عن السدين، كان ينص العقد أيضاً على بناء منشآت قاعدية تشمل مضخات، وخزانات، وطرقاً وجسوراً، تسمح بريّ مساحات زراعية، وتلبي طلب مدينة درنة من المياه.
أدت الممارسات الزراعية إلى تغيير المشهد حول الوادي، وتركت الضفاف المشجرة التي رسمها البريطاني بورشر في القرن التاسع عشر المجال لأخاديد سهلت تآكل وتراكم الطمي في السدود، وقد أدى هذا الطمي المتراكم بدوره إلى تسريع تآكل الهياكل المصنوعة من الطين والكتل الحجرية المرصوصة التي تتطلب صيانة منتظمة، والتي يبدو أنها كانت مفقودة.
كشفت عمليات تدقيق أجريت على السدود من قبل شركات سويسرية وإيطالية في بداية سنوات الألفية عن وجود مواطن ضعف هيكلية، وفي سنة 2007، كلفت مجموعة آرسل التركية القيام بأعمال ترميم. كان يفترض أن تحصل "آرسل" على 30 مليون دولار بموجب هذا العقد، وهذا يعطي فكرة عن حجم الأضرار التي مسّت الهيكل، أو عن الفساد في النظام القديم.
لوقت إجراء الدراسات الأولية والانطلاق في الورشة نصل إلى 2011، وهو عام مفصلي في تاريخ ليبيا المعاصر، إذ شهد سقوط نظام القذافي. 
كانت المدينة تشتهر بأنها معقل إسلامي منذ الاستعمار الإيطالي، وينحدر منها الكثير من المجاهدين الليبيين الذين غادروا إلى أفغانستان أو العراق بين 1980 و2010، بمباركة القذافي أحياناً، وعدد كبير من السجناء الذين أعدموا في مذبحة سجن أبو سليم في 1996 هم من أبناء درنة.

يخشى سكان درنة من تأجيل السلطات إعمار المدينة (محمد شالش/Getty)
عاش سكان درنة فاجعة مكتملة المعالم (محمد شلش/Getty)

وقد عانت المدينة بعدها من عقاب جماعي فرضه القذافي، وأهملت تماماً. يمكن أن نرى في ذلك أحد أسباب غياب صيانة السدود. مهما يكن، فإن درنة، القوية بتقاليدها الاحتجاجية، كانت من المدن الأولى التي انتفضت على الدكتاتور. 
هُجرت ورشة السد حينها من قبل مجموعة آرسل من دون أن تُجرى أي إصلاحات حقيقية، ونُهبَت المعدات، وطالبت الشركة بعدة ملايين من الدولارات كتعويض، وحصلت عليها. وزادت الفترة التي أعقبت الثورة من تدني مستوى المدينة، وأُجِّلَت أشغال الصيانة دائماً.
سقطت درنة بعد ذلك تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ثم تحت سيطرة منافسيهم من مجلس شورى مجاهدي درنة (القريب من تنظيم القاعدة)، وشهدت المدينة حصاراً دام 3 سنوات، وعدة عمليات قصف جوي، لتقع في الأخير تحت سيطرة اللواء المتقاعد خليفة حفتر في 2018.
أدت الأضرار المرتبطة بالحرب إلى إضعاف وتفكيك المدينة التي بلغ عدد سكانها 100 ألف نسمة، والتي تتميز أيضاً بوجود هجرة كبيرة من مصر وتشاد. عيّن حفتر ابن شقيق عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، رئيساً لبلدية درنة، وابتلع الفساد والمحسوبية كل الإعانات المالية المخصصة للتنمية والترميمات، وبخاصة تلك الموجهة للسدود.
كان السكان واعين بعمليات التحويل التي تجري على حسابهم، وكانوا على دراية بالمخاطر، كما تشهد على ذلك قصيدة تنبؤية للشاعر مصطفى الطرابلسي، ألقاها قبل أقلّ من أسبوع على الكارثة، ويقول فيها: "المطر يفضح الشوارع الرطبة. والمقاول الغشاش. والدولة الفاشلة". كانت الريبة تجاه السلطات في أوجها آنذاك. فهي لم تكن تكتفي بالاستيلاء على المال العام، بل تتفق أيضاً على عدم ضمان الحد الأدنى من التنظيم، وهكذا لم يُوضَع أي مخطط لإدارة الأزمات، ولا أنظمة إنذار مبكر، ولا حتى نظام صافرات إنذار.

ضربت العاصفة دانيال السواحل الليبية في هذا الظرف من الإهمال الحضري والاجتماعي. بدأت الظاهرة تتشكل ابتداءً من 5 سبتمبر في شرق البحر المتوسط. شهد أولاً جنوب شرقيّ البلقان وشمال غربيّ تركيا هطولاً كبيراً للأمطار، وسبّبت الفيضانات الناجمة عن ذلك مقتل 16 شخصاً، وأضراراً بقيمة 5 مليارات يورو في اليونان. واصلت العاصفة دانيال طريقها وهي تزداد قوة، وقيسَت سرعة الرياح بـ 85 كلم/ساعة. يستعمل بعض العلماء ووسائل الإعلام بخصوص هذا النوع من العواصف المتوسطية العنيفة مصطلح "ميديكان"، وهو مزج بين كلمتي "المتوسط" والإعصار بالإنكليزية.
عبرت العاصفة البحر المتوسط من جنوب غرب اليونان، ودخلت الأراضي الأفريقية من بني غازي في 10 سبتمبر. وأُعلنَت حينها حالة الطوارئ في برقة. في 9 سبتمبر، تلقت بعض الأحياء من واجهة درنة البحرية أمراً بالإخلاء تحسباً لخطر حدوث أمواج قوية وغمر بحري. غير أن انعدام الثقة طغى، وبقي الأمر حبراً على ورق.
في يوم 10 سبتمبر، تم تطهير الشوارع وتسليك بالوعات المياه، خصوصاً من طرف الكشافة، وفي تناقض مع أمر الإخلاء، فرضت البلدية حظراً للتجوال من الساعة السابعة مساءً إلى الثامنة من صباح اليوم التالي، بزعم تسهيل عمل خدمات الطوارئ.
كانت الأمطار شديدة على الجبل الأخضر، حيث سجلت محطة الأرصاد الجوية في البيضاء، تهاطل أكثر من 400 ملم من الأمطار خلال 24 ساعة. بدأ خزان سدّ "أبو منصور" بالامتلاء، وعمد حارس وحيد كان موجوداً آنذاك إلى إطلاق الإنذار. مع ذلك، نشرت السلطات رسالة على "فيسبوك" لطمأنة السكان بأن السد في حالة جيدة.
في الساعة الواحدة و12 دقيقة من صباح يوم الاثنين 11 سبتمبر، أدى فائض المياه إلى إضعاف الهيكل بأكمله، وسبّب انهيار السد، وانفجر الهيكل الثاني تحت الضغط. كانت الساعة آنذاك تقريباً الثالثة صباحاً؛ واجتاحت المدينة موجة عرضها 150 متراً، وعلوها بين 3 و7 أمتار، فجرفت في طريقها 25 في المائة من المدينة.

ما لحق بدرنة من دمار يتطلب جهوداً كبيرة (أيدوغان كالاباليتش/ الأناضول)
جرف الفيضان المنازل بمن فيها (أيدوغان كالاباليتش/الأناضول)

كانت الخسائر البشرية فظيعة: قتل ما لا يقل عن 4 آلاف شخص، وأكثر من 8 آلاف في عداد المفقودين، ما يتجاوز ضحايا الإعصار "هايان"، أحد أقوى الأعاصير التي قيسَت على الإطلاق، والذي أودى بحياة ما يقارب 6 آلاف شخص في الفيليبين في عام 2013.
في الصباح كانت درنة معزولة، إذ انقطعت شبكات الاتصال، ودمرت الطرق. لعدة أيام كان على الناجين الاعتماد على أنفسهم. تدريجياً، أدركت البلاد حجم الكارثة، وكان لهذا الحدث فضل جمع الليبيين في وثبة تضامنية، وقد تجندوا من جميع المناطق، وحتى من الخارج، لمساعدة مواطنيهم. تدفقت المساعدات قدر المستطاع على المدينة، وشيئاً فشيئاً تمّ تأمين الإمدادات من المواد الضرورية.
في 18 سبتمبر عُثِر على آخر الناجين بعد أسبوع تقريباً على المأساة، وكان هذا اليوم الذي اختاره المواطنون للتعبير عن امتعاضهم وغضبهم. تجمّع المتظاهرون تحت "حماية" الكتيبة 166 (حرس حفتر، بقيادة صهره أيوب بوسيف الفرجاني، الذي شارك في الاستيلاء الدموي على درنة)، مطالبين بفتح تحقيق دولي لتحديد أسباب الكارثة، ومحاكمة المسؤولين عنها، وتسريع عملية إعادة البناء. 
أُحرق منزل رئيس البلدية، وردّت السلطات بطرد جميع الصحافيين الحاضرين، واعتقال عدة أشخاص، ولم يتم إلا بعد أسبوع، في 25 سبتمبر، توجيه تهمة الفساد والإهمال إلى رئيس البلدية السابق ونحو 15 مسؤولاً. في بداية أكتوبر/تشرين الأول، لم يكن يتوافر إلا مدخل واحد للمدينة، وكان يُعثَر على جثث بانتظام، وبدأت فرق الإنقاذ الدولية حزم أمتعتها. حاولت مبادرات شخصية أو مجتمعية تقديم الدعم لسكان درنة، وتجاوز التضامن القادم من جميع أنحاء البلاد الانقسامات السياسية والصراعات التي مزقت ليبيا لسنوات.

يصعب تقدير عدد الأطفال الذين قضوا، لكن بالنظر إلى أنهم يمثلون نحو 40 في المائة من السكان، يمكن توقع النسبة نفسها من آلاف الوفيات وعشرات الآلاف من حالات الاختفاء. منذ ذلك الحين، تعلّم الناجون كيف يتعاملون مع أعراض اضطرابات ما بعد الصدمة التي قد تظهر بعد أسابيع إلى عدة أشهر، خصوصاً أن هياكل الصحة النفسية غير مهيّأة لمعالجة هذا العدد الكبير من المرضى. 
بقي جزء من المدارس مغلقاً حتى أكتوبر، وحولت المؤسسات التعليمية التي لم تتضرر إلى مراكز استقبال أو أماكن إقامة طوارئ. أما بالنسبة إلى تنظيف المنازل، فقد تحول إلى عمل مربح. في 30 سبتمبر، كان المقاولون المصريون يطلبون 2500 جنيه لتنظيف المنزل، وفي اليوم التالي وصل السعر إلى 4000 جنيه. يعرف الانتهازيون كيفية الاستفادة من أوقات الأزمة.
انعقد يومي 1 و2 نوفمبر، مؤتمر في بنغازي ضم 260 شركة من حوالى عشر دول لمناقشة إعادة إعمار المدينة، وسرعان ما طفت الخلافات إلى السطح، وكذلك الممارسات السيئة: هكذا، عُيِّن أحد أبناء المشير حفتر، بلقاسم، رئيساً لصندوق إعادة إعمار درنة، بميزانية قدرها 10 مليارات جنيه (ما يقرب من مليارَي يورو). وقد أُبرِمَت العقود الأولى مع شركات مصرية.
أظهرت الكارثة أنه عندما تفشل الدولة، يكون بمقدور المجتمع المدني التعبئة وتقديم الإسعافات الأولية والتضامن، ومن شأن تحسيس السكان، وضمان تواصل شفاف، وتطوير أنظمة الإنذار المبكر المساعدة في تقليل الخسائر البشرية عند حدوث الكوارث الطبيعية. إن إدراك أن الأحداث المناخية قد تصبح أكثر حدة، ضرورة حيوية للدول. ومن دون التكيف الفعال، من الممكن، للأسف، أن تتكرر مآسٍ مثل تلك التي وقعت في درنة.


(الكاتب أستاذ وباحث في علم الجغرافيا)

يُنشر بالتزامن مع موقع أوريان 21

المساهمون