لا يزال العلماء في طور استكشاف إمكان تحديد الأمراض مبكراً عبر دراسة التفاعلات الكيميائية لإنتاج الطاقة وحرقها في الجسم، والتي تعرف باسم "التمثيل الغذائي"، وهم لا يعلمون طبيعة النتائج المتوقعة.
ربما يكون فقدان الوزن صعباً، أما الحفاظ على الوزن الذي تحقق فأكثر صعوبة. هذا ما تتشاركه مديرة مختبر جامعة تافتس بولاية ماساتشوستس سوزان روبرتس مع خبراء السمنة في أنحاء العالم، الذين يعتبرون، استناداً إلى أبحاث وتجارب أجريت على مدى عقدين، أن التزام الأفراد الذين يعانون من زيادة الوزن بإنقاص كيلوغراماتهم بسيط نسبياً على المدى القصير، لكن من الصعب جداً منع استعادتهم الوزن المفقود على المديين المتوسط والطويل.
تنقل صحيفة "ذي غارديان" البريطانية عن دراسة نشرتها جامعة ميشيغان الأميركية أن نحو 90 في المائة من الأشخاص الذين يفقدون كميات كبيرة من الوزن، سواء من خلال أنظمة غذائية أو برامج للحمية أو حتى خطوات جذرية مثل إجراء جراحة لتصغير المعدة، يستعيدون في النهاية كل هذه الأوزان تقريباً.
وتربط الدراسة هذا الأمر بطريقة عمل التفاعلات الكيميائية للتمثيل الغذائي في الجسم والخلايا التي تحوّل السعرات الحرارية التي نتناولها إلى الطاقة التي يحتاجها الجسم للتنفس والحفاظ على وظائف الأعضاء، وإبقاء الأفراد أحياء عموماً.
اتباع نظام غذائي يؤدي إلى تغييرات بيولوجية
عندما يبدأ شخص نظاماً غذائياً جديداً، يبدأ "حرق الغذاء" بالانخفاض في البداية، لأن الأفراد يستهلكون فجأة سعرات حرارية أقل فيحرقها الجسم بوتيرة أبطأ. وإذا استمر ذلك أثناء فقدان الوزن فقد يشير إلى أن اتباع نظام غذائي يؤدي إلى تغييرات بيولوجية فطرية تجبر الشخص في النهاية على تناول مزيد من الغذاء. أما إذا عاد "حرق الغذاء" إلى المستويات الطبيعية، فيشير ذلك إلى أن استعادة الوزن تعود إلى تكرار عادات سابقة سيئة، والتي قد تتأثر بالعوامل الاجتماعية والثقافية التي تغري البشر بالعودة إلى الإفراط في تناول الطعام.
تقول روبرتس: "إذا انخفضت عمليات البناء والهدم في الجسم (الأيض) لدى شخص أثناء فقدان الوزن ولم يتعاف، فهذا يدل على أنه كان يجب تخصيص كل الأموال والإمكانات لمنع زيادة الوزن بالدرجة الأولى، باعتبار أن الدروس المتعلقة بتناول كميات أقل من الطعام لم تساعد الجسم في التعامل معها بشكل فعّال". وحينها يجب أن يزور الأشخاص الذين تعرضوا لذلك خلال عمليات إنقاص الوزن علماء نفس للعمل على تكوين عادات جديدة".
ورغم أن فرضيات عدة وضعت في السنوات الأخيرة جرى قبولها باعتبارها حقيقة، وبينها أن التمارين تعزز "حرق الغذاء" الذي يتبع انخفاضاً ثابتاً بدءاً من سن العشرين، خالف بحث أجراه الأستاذ المشارك في الأنثروبولوجيا التطورية بجامعة ديوك في ولاية كارولينا الشمالية هيرمان بونتزر مع أكثر من 80 عالماً آخرين، وشمل جمع بيانات أكثر من 6400 فرد تراوح أعمارهم بين 8 أيام و95 عاماً، حقيقة تباطؤ "حرق الغذاء" مع دخول عمر البلوغ.
ونقلت مجلة "ساينس" الأميركية عن البحث أن الأيض بين سني 20 و60 يظل مستقراً تماماً تقريباً، حتى أثناء التحولات الهرمونية الرئيسية، مثل الحمل وانقطاع الطمث. وبناءً على هذه البيانات الجديدة، تحرق امرأة تبلغ من العمر 50 عاماً سعرات حرارية بفعّالية الحرق نفسها لدى شابة في الـ20.
وقد لا تخرج هذه النتائج من إطار التكهنات بالنسبة إلى البعض، لكن العلماء يعرفون أن "حرق الغذاء" قد يختلف بين شخص وآخر، حتى بعد حساب عوامل مثل الحجم وتكوين الجسم، و"هو ما لا يعرفون أسبابه"، بحسب روبرتس، التي تلمّح إلى مجموعة كاملة من العوامل، من الجينات إلى أحجام الأعضاء والجهاز المناعي، وحتى أنواع البكتيريا الموجودة في الأمعاء.
ويقول بونتزر: "حتى مع أحدث التقنيات الرقمية، يصعب جداً أن يتتبع الأشخاص معدل الأيض الخاص بهم، إذ لا يمكن احتساب الاختلافات الفردية في معدل الأيض أثناء الراحة".
وفيما يظل أحد الأسئلة الرئيسية التي تحتاج إلى إجابات احتمال أن تعزز هذه الاختلافات الإصابة بأمراض مرتبطة بخلل في "حرق الغذاء"، مثل السرطان والسكري من النوع الثاني، يرى مدير مركز أبحاث السمنة الغذائية في مركز بنينغتون للأبحاث الطبية الحيوية في باتون روج بولاية لويزيانا إريك رافوسين أن "حالات صحية أيضية كثيرة تتأثر بالنظام الغذائي والوزن. وكلما زاد الوزن يزداد احتمال إصابة الأشخاص بارتفاع ضغط الدم، والإصابة بالتهابات".
وتبحث الآن مجموعة من الشركات الناشئة حول العالم بشأن طرق استخدام المعرفة العلمية بـ"حرق الغذاء" للمساعدة في تطوير برامج العلاج الشخصية، باعتبار أن الاختلالات الوظيفية في ميكروبات الأمعاء ترتبط بتطور عدد من الأمراض الأيضية.
وتقوم شركة "بيو مي"، التي تتخذ من أوسلو مقراً، بتحديد ملامح ميكروبات الأمعاء للمرضى المصابين بداء السكري من النوع الثاني، ومرض الاضطرابات الهضمية، ومرض التهاب الأمعاء وأنواع معينة من السرطان، باستخدام تسلسل الحمض النووي لعينات البراز من أجل تحديد الأنواع الدقيقة من البكتيريا الموجودة، تمهيداً لاستخدامها في التنبؤ بالأنظمة الغذائية أو التدخلات العلاجية التي قد تفيد هؤلاء المرضى تحديداً.
ويؤكد الرئيس التنفيذي لشركة "بيو مي" مورتن إيزاكسن أنه "يمكن استخدام هذا للتنبؤ لتحديد عمل أدوية شائعة، مثل عقار الميتفورمين الخاص بمرض السكري، بشكل جيد مع مريض محدد. فهذا الدواء لن يعمل إذا لم يمتلك الشخص البكتيريا الصحيحة في الأمعاء".
ولأن "حرق الغذاء" يعد أمراً أساسياً في إصابات أمراض السرطان، يمكن استخدام مؤشرات الخلل الأيضي للتشخيص المبكر لبعض أنواع السرطان. وهذا ما تقوم به شركة "إيليبتا" للتكنولوجيا الحيوية التي تتخذ من ستوكهولم مقراً، من خلال تجربة نظام يكتشف الجزيئات الصغيرة المعروفة باسم "المستقلبات"، والتي تنتجها خلايا سرطان الكلى.
ويقول فرانشيسكو جاتو، المؤسس المشارك لشركة "إيليبتا": "حين تبدأ الخلايا السرطانية في التكاثر، تتغير متطلبات حرق الغذاء مقارنة بالخلايا السليمة، لذا نعتقد بأننا نستطيع استخدام هذه الطبقة من معلومات التفاعل الكيميائي للتمثيل الغذائي في المساعدة على تحديد أنواع عدة من السرطان في وقت مبكر بطرق غير جراحية".
ويخطط بونتزر للغوص في أقصى درجات التفاعل الكيميائي للتمثيل الغذائي لدى الشباب أو كبار السن. ويقول: "سنحاول تحليل التباينات بين الأطفال الصغار جداً وأولئك الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً، إذ نريد أن نفهم إذا كان الأشخاص الذين يكثر حرق الغذاء لديهم أو يقل أو يتسارع أو يتباطأ قد ينبئ بأي شيء عن صحتهم أو كيف تتطور أجسامهم".