يمكن القول إنّ النسبة الأكبر من النساء في مخيمات وسط قطاع غزة وجنوبه يعرفن الداية حورية عبد الله عبد الهادي مصلح. هي التي كانت ملجأ النساء الحوامل في هذه المنطقة. هذه الداية (القابلة القانونية) عُرفت بجرأتها، فلم تكن تهاب التنقل رغم حظر التجول الذي كان يفرضه الجيش الإسرائيلي خلال فترة سيطرته على القطاع منذ حرب 1967 (نكسة حزيران) وحتى عام 1993، (بعد اتفاقية أوسلو حين أصبح القطاع تحت السيطرة المباشرة للسلطة الوطنية الفلسطينية التي أُنشئت حديثاً).
تعود أصول الداية حورية إلى قرية البطاني الشرقي التي تقع إلى الشرق من مدينة أسدود على الساحل الفلسطيني، وتبلغ من العمر 85 عاماً. كانت تولّد نساء من كل محافظات قطاع غزة، ووصل صيتها إلى مدينة العريش المصرية خلال ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وحتى ثمانيناته. إلا أن عملها بشكل خاص تركز في مخيمات البريج والمغازي ودير البلح والنصيرات (وسط القطاع وجنوبيّه).
تعلّمت هذه المهنة على يد طبيبة ماليزية تدعى عيشا في مدينة دير البلح وسط القطاع، كانت تساند الطواقم الطبية خلال عملها مع اللاجئين. شاركت الداية حورية الطبيبة في الكثير من عمليات الولادة، ثم طلبت منها الحصول على رخصة لتشريع عملها فرفضت. لكن بعدما أثبتت جدارتها واستطاعت إجراء نحو 10 عمليات ولادة ناجحة، كما تذكر، ومن دون حدوث أي أعراض جانبية للنساء، وافقت على منحها الرخصة.
وبعدما تعلمت المهنة، أشرفت على ولادة نساء في مخيم المغازي، ثم انتقلت إلى منطقة القرارة في مدينة خانيونس جنوبيّ قطاع غزة، ثم قرية الزوايدة وسط غرب قطاع غزة، حتى ذاع صيتها في مختلف أنحاء القطاع. كانت تجري عمليات الولادة في منزلها في حالات الطورئ، وتحرص على ألّا يصيب المرأة أي جرح أو مضاعفات بعد الولادة.
تقول حورية لـ "العربي الجديد": "المرأة الأولى التي قمت بتوليدها كانت مدرّسة تعود أصولها إلى قرية كوكبا (شمال شرقيّ غزة)، وقد أنجبت في منزلي ثلاثة توائم. وحين حضر طبيبها الذي بدا مشككاً، ورأى مدى نجاح العملية، خاطبني قائلاً إنني لم أجرحها حقاً، وقد اعتقد أن الأمر حتمي. ثم بدأ الناس يخبر بعضهم البعض عني وقد صرت معروفة".
تملك حورية أدوات الداية القديمة، قد تجاوز عمر بعضها الـ 40 عاماً، منها مقص السرّة، وملقط كبير تمسك من خلاله كل الأدوات الأخرى حفاظاً على التعقيم، وميزان عمودي قديم؛ تضع الطفل في قماشة ثم تشبكها بالميزان لتعرف وزن الطفل، والصبابات وهي أطباق صغيرة حديدية تضع الماء والصابون والمعقمات فيها.
وقبل إجراء أي عملية ولادة، تأخذ عيّنة من بول المرأة، تضعه في زجاجة، وتغليه على النار. وفي حال ظهور أي مواد على سطح الزجاجة، تطلب نقل المرأة إلى المستشفى، لأنها قد تكون مصابة بالتهابات داخلية. أجرت الداية حورية مئات عمليات الولادة الناجحة، وقدمت آلاف الاستشارات النسائية، وقد بلغت خبرتها في هذا المجال نحو 45 عاماً. وبعد إتمام كل ولادة، تسجل اسم المولود وتضع ختمها، وهي التي ما زالت تحتفظ بالمحبرة القديمة حتى اليوم.
لدى حورية 4 أولاد وابنتان. أحد أبنائها، ويدعى محمود، استشهد قبل نحو 30 عاماً على يد الجيش الإسرائيلي حين كان في العشرين من العمر أمام حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة. شقيقه الأكبر محمد درس في جامعة دمشق وبقي في العاصمة السورية، ولم ترَه منذ 25 عاماً. وازداد احتمال رؤيته صعوبة خلال السنوات الأخيرة بفعل الحرب السورية.
وعام 1980، اقتحم الجيش الإسرائيلي منزلها بعدما رصد هروب مقاومين منه. حاصر محيط المنزل فخبأت اثنين من المقاومين ثم ساعدتهما على الهرب، مشيرة إلى أنها ما زالت تذكر اسميهما حتى اليوم.
لكن الجيش اعتقلها وحاول نزع اعتراف منها من دون نتيجة، فنقلها إلى "دكان صدقي" المعروف في مخيم المغازي، وألقاها على ظهرها وأطلق الرصاص عليها فأصيبت بطلقتين في قدمها. ظن كثيرون أنها ماتت. لكن نقلها شبان إلى المستشفى وبقيت على قيد الحياة، إلا أنها ما زالت تعاني من مشكلة في قدمها مكان الإصابة.
ذكريات
كانت حورية في الـ 13 من عمرها عندما هُجّرت مع أسرتها من قرية البطاني الشرقي. حتى اليوم، ما زالت تذكر الإعدامات التي رأتها. "كنا في منازلنا حين هاجمنا الصهاينة. جمعوا الرجال في منطقتنا، وشاهدتهم يطلقون النار عليهم، وقد قتلوا شاباً من قرية البطاني الغربي كان قد تزوج حديثاً، وصودف مروره من قريتنا، وآخر اسمه خميس منصور. كان الصهاينة قد طلبوا من الأخير ومن والدي الحضور، ثم طلبوا من الجميع تغطية وجوههم قبل إطلاق النار عليهم. أُصيب أبي في قدمه. سحبته من تحت الجثث وحاولت إيقاف نزفه بقطعة قماش من الحطة التي كان يضعها على رأسه. نزحنا، علماً أن أهالي أسدود لم يتركوها في ذلك الوقت. ونقلت والدي على عربة يجرّها حمار للعلاج في مستشفى في القدس".
حتى اليوم، لم تعتزل العمل. وتقصدها كثيرات طلباً للمشورة، ومن دون مقابل مادي. في إحدى المرات، جاءت إليها امرأة فأخبرتها أنها لن تلد في اليوم نفسه، بل في اليوم الذي يليه. وبالفعل، حين توجهت إلى المستشفى، حصل ما قالته لها.