عاشت اللاجئة الفلسطينية فاديا سالم ظروفاً صعبة في لبنان. هذه المرأة التي تتحدر من الضفة الغربية في فلسطين، كانت عائلتها قد سكنت في مدينة حيفا قبل اللجوء إلى لبنان، حيث وُلدت في خيمة في مخيم تل الزعتر، في شرق العاصمة بيروت، عام 1952. كان جدّها ناشطاً مع المناضل عز الدين القسام، وكانت الاجتماعات المتعلقة بالمقاومة تعقد في منزل جدها، بالإضافة إلى انطلاق العمليات.
وكانت جدتها ووالدتها تساعدان المقاومين في تهريب السلاح منذ عام 1936. وفي عام 1948، مع بدء احتلال الصهاينة فلسطين، خافت عائلتها على والدها من الاعتقال والقتل، فتوجه نحو دمشق مع عائلته. وتشير إلى أن والدتها من مدينة صيدا في جنوب لبنان، إلا أنها ولدت وعاشت في فلسطين. تقول: "من دمشق، توجهت عائلتي إلى مدينة حمص في سورية، ومنها إلى مدينة صور (جنوب لبنان)، ومنها إلى مخيم تل الزعتر، بسبب توفر فرص عمل".
تتابع: "مع بداية الثورة الفلسطينية، بدأ الناس يلتحقون بالمنظمات الفلسطينية، وينخرطون في تدريبات عسكرية في العراق وسورية. انضممت إلى حركة فتح حين كنت في العشرين من عمري، كما التحقت بالاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، وخضعت لدورات تثقيفية واجتماعية. وافتتح الاتحاد عيادة في المخيم، وتعلّمت مهنة التمريض، بعدما أنهيت تعليمي في المرحلة المتوسطة، وكنت أول ممرضة في مخيم تل الزعتر. صرت ألتحق بدورات تمريض إلى أن جرت توسعة العيادة إلى مستشفى حمل اسم الكرامة، ويضم أقساماً عدة وكبيرة. وصار المستشفى يستقبل أطباء من الجامعة الأميركية لتدريب الممرضين والممرضات العاملين والعاملات في المستشفى، وجرى تجهيزه من قبل أطباء فلسطينيين، وتابعت تدريبي حتى حصلت على شهادة أهلتني لاستلام قسم الجراحة".
تضيف: "قبل مجزرة بوسطة عين الرمانة عام 1975 (تعتبر الشرارة المباشرة لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان)، كنا نعيش في المخيم بشكل طبيعي. لكن تغير الوضع لاحقاً. وبتنا نواجه مضايقات من قبل عناصر عسكرية، ووصل الأمر إلى خطف أشخاص وقتلهم، وقصف المخيم، ومنع دخول المستلزمات الطبية والمواد الغذائية وصولاً إلى قصفه. عملت مع عدد من الممرضين والأطباء على توزيع الأدوية على البيوت، ليكون الدواء متوفراً في حال قُصف المستشفى".
وتقول: "اشتد القصف على المخيم واختبأ الناس في الملاجئ. في ذلك الوقت، كان هناك العديد من النساء في حالة ولادة، وصرن يطلبنني بالاسم. لم أكن قابلة قانونية، لكن طبيب الولادة لم يكن قادراً على الوصول إلى المخيم بسبب الحصار، فولدت 18 امرأة بعدما استعنت بإرشادات أحد الأطباء". تتابع: "استمر الحصار على المخيم مدة شهرين، وكان عدد الجرحى يتزايد والمواد الطبية تنفد. بقيت مع الأطباء الذين ظلوا في المخيم يعالجون الجرحى بالمياه والملح. بعض الجرحى كتبت لهم النجاة أما البعض الآخر فمات". تضيف: "توفي أكثر من خمسين جريحاً. ومع سقوط المخيم، تُرك الجرحى لمصيرهم".
يشار إلى أن مذبحة تل الزعتر حصلت في 12 أغسطس/ آب عام 1976 خلال الحرب الأهلية اللبنانية في مخيم تل الزعتر. ومر حصار المخيم بأربع مراحل: حصار تمويني نفّذته مليشيات اليمين المسيحي اللبناني مطلع عام 1976 استمر سبعة أشهر، تلاه هجوم عسكري مُحكَم من الجهات الأربع، مدة اثنين وخمسين يوماً، ثم خروج متزامن للمقاتلين في اتجاه الجبال، وللمدنيين نحو خطوط المليشيات، وفي المرحلة الرابعة الأخيرة، ارتكبت تلك المليشيات داخل مناطقها، وعلى نقاط التفتيش، مجزرة في حق المدنيين والفِرق الطبية التي استسلمت لها في 12 أغسطس، ثم رُحّل من تبقّى من الأحياء، وغالبيتهم نساء وأطفال، إلى الشطر الغربي من العاصمة.
تتابع فاديا: "خرجت من المخيم مع بعض الشباب إلى مستشفى آخر لإحضار الأدوية، علماً أن المكان كان محاصراً بالقناصة. أخذنا بعض الأدوية من المستشفى وعدنا إلى المخيم". وتشير إلى أن "المواد الغذائية نفدت فجاع الناس، ونفد حليب الأطفال، وانقطعت المياه عن المخيم. لم أستطع الخروج من المخيم مع أهلي، لأنني كنت مطلوبة من قبل العناصر المسلحة. لكن بعدما غيرت ملابسي وارتديت الزي العسكري، خرجت مع شباب المخيم، وتوجهنا نحو منطقة بيت مري في محافظة جبل لبنان. صارت القذائف تطالنا وحوصرنا، فأشار علينا شقيقي بالعودة إلى المخيم، بدلاً من أن نموت في الأحراج. عدت إلى المخيم ثم خرجت مع المدنيين، بعدما غيرت شكلي وبدلت ملابسي. كنت خائفة وشعرت بأن المسافة طويلة. بعد الخروج من المخيم، جلست النساء على حافة الطريق في انتظار قدرهن، إذ إن بعض العناصر كانت تريد قتلنا. حضر الصليب الأحمر الدولي، ومنع قتلنا، وصعدنا إلى شاحنة. في ذلك الوقت، عرفت أن أبي اعتقل وأحرق مع آخرين".
تقول فاديا: "كان ذلك اليوم أشبه بيوم القيامة، فما إن وصلت الشاحنات إلى منطقة المدينة الرياضية في بيروت ونزل الناس منها، حتى صاروا يبحثون عن أولادهم وإخوتهم وأزواجهم. فقدت ثلاثة أشقاء وأبي وزوج أختي وابن أخي، جميعهم استشهدوا في تل الزعتر ما عدا والدي الذي قتلوه خارج المخيم. بعد ذلك، سكنا في منطقة الدامور، في محافظة جبل لبنان، والتحقت بمستشفى غزة بمخيم صبرا ببيروت، للعمل في قسم التوليد الذي كنت رئيسته".
عام 1978، قصفت بلدة الدامور، فانتقلت مع أهلي للعيش في منطقة تلة الخياط في بيروت، ثم اشترينا منزلاً في مخيم مار الياس ببيروت. وأثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، كانت لا تزال تعمل في مستشفى غزة. شهدت مجزرة صبرا وشاتيلا في 16 سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، لكنها لم تعلم بوقوعها إلا بعدما وصل عدد كبير من الجرحى إلى المستشفى، وتمكنت من الهرب مع زميلتها. بعد انتهاء المجزرة، "عدنا إلى المستشفى لنرى حجم الكارثة. لم نستطع الدخول من هول المجزرة. كان الناس مقيدين ومقتولين بأبشع الطرق. سرنا على جثث الموتى في المخيم. عدت إلى مخيم مار الياس، والتحقت بالمركز التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. وبعد انسحاب الاحتلال من بيروت بمدة، حوصر مخيم صبرا، وقصف المستشفى، فجرى نقل العاملين فيه إلى مستشفى حيفا في مخيم برج البراجنة. وبعدما أحلت إلى التقاعد، تركت بيروت وأسكن حالياً في منطقة الفوار في مدينة صيدا، أنتظر العودة إلى فلسطين".