جرائم السويد... قسوة وسوداوية حياة الضواحي

19 يوليو 2021
هنا سقطت ضحيّتان في إطلاق نار في غوتنبرغ قبل مدّة (فرانس برس)
+ الخط -

 

في بداية يوليو/ تموز الجاري، نُكّس العلم السويدي وكانت دقيقة صمت حداداً على ضابط في الشرطة سقط على يد فتى من أصول مهاجرة في إحدى ضواحي غوتنبرغ. فمقتله شكّل قضية رأي عام وأعاد فتح السجال حول الجريمة المنظمة في البلاد.

تعيش مدينة غوتنبرغ جنوبي السويد "حالة حزن" كما تصفها الصحافة المحلية والمتخصصون في مجال الدمج. ففي ضاحيتها بيسكوبسغاردن التي تضمّ نحو 30 ألف نسمة، سقط ضابط شرطي سويدي قتيلاً برصاص فتى في السابعة عشرة من عمره في الأوّل من يوليو/ تموز الجاري، لتعيد هذه الجريمة السجال المجتمعي والسياسي والأمني حول "قسوة وسوداوية حياة الضواحي". وتتصدّر البلاد عمليات القتل في أوروبا، لا سيّما بسبب احتراب عصابات يغلب عليها طابع الهجرة وتستهدف تحديداً مجتمعات محلية من أصول لاجئة ومهاجرة في مدن السويد.

في ضاحية بيسكوبسغاردن، تهيمن عصابتان من أصول مهاجرة، فتحيل حياة السكان إلى "جحيم لا يطاق" بحسب ما يشكو محمود عمر الذي يقيم فيها منذ 35 عاماً. ويصف عمر لـ"العربي الجديد" هذا الواقع، من دون أن يحاول إخفاء فزعه من الآتي، قائلاً "أنت أمام عصابات مراهقين لا يقيمون وزناً لا للقيم الاجتماعية ولا للقوانين. هؤلاء يتحاربون على المناطق". ويوضح الرجل الذي أغلق متجره قبل سنوات طويلة، أنّ "ما يجري ليس فقط صراعاً على سوق الممنوعات، تحديداً المخدرات، بل يشمل الأمر فرض إتاوات على المحلات التجارية التي يملكها أشخاص من الخلفية الإثنية ذاتها". يضيف عمر أنّ "الاحتراب بمعناه الحرفي يعني قتلاً بالرصاص أو بتفجير عبوات، والحادثة الأخيرة الذي أودت بحياة ضابط سويدي أمام زميلته ليست سوى قمة جبل الجليد".

الصورة
تكريم لضابط الشرطة الذي قتل في غوتنبرغ (أندرياس هيلرغرن/ فرانس برس)
تحيّة إلى زميلهم الذي قضى أخيراً برصاص الفتى اليافع (أندرياس هيلرغرن/ فرانس برس)

ويروي شهود عيان ما جرى مساء ذلك اليوم، فقد أطلق فتى يافع النار من مسدس قبل أن يفرّ، مستهدفاً منافسين لعصابته من دون إصابة أيّ منهم. وبعد حضور ضابطَي شرطة على متن درّاجتَين ناريّتَين مخصصتَين لشرطة تلك الضاحية واستماعهما إلى شهود، عاد الفتى ليطلق النار فيقتل على الفور أحد الضابطَين البالغ من العمر 33 عاماً، الأمر الذي شكّل مذاك الحين حالة صدمة إضافية محلياً وفي كلّ أرجاء السويد. في نهاية الأسبوع الماضي، أعلنت الشرطة السويدية اعتقال الفتى ليتبيّن أنّه من أصحاب السوابق. فهو حاول استخدام سكين في السابق لتهديد حياة أكثر من شخص بالذبح، كذلك هو لا يبالي بالدراسة، وقد حُكم عليه لمدّة عام في إصلاحية للقصّر عندما لم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره. وعندما أطلق سراحه، عاد إلى حضن العصابات وتزوّد بسلاح ناري أودى في النهاية بحياة الضابط الشرطي. وأثير من جديد موضوع سياسة الهجرة والدمج في البلاد، على مستوى الرأي العام وكذلك المستوى السياسي-الحزبي. يُذكر أنّ في مثل هذه الضواحي، يعيش مئات آلاف من الأشخاص الذين استقبلتهم السويد على مدى 50 عاماً، كمهاجرين ولاجئين، بعدما وجدوا فيها مكاناً مناسباً لهم نظراً إلى بدلات سكن رخيصة الثمن ونظراً إلى أنّها تجمعهم لتخفّف من قسوة الغربة. لكنّ تلك الضواحي وقعت ضحية حروب عصابات مستمرة منذ تسعينيات القرن الماضي.

بالنسبة إلى المهاجرة أمّ سعيد، فإنّ "الواقع مأساوي منذ سنوات. وللأسف لم يعد يجدي حتى توسّل الشباب للتوقف عن الإضرار بالناس". وأمّ سعيد تعيش في الضواحي منذ أكثر من 20 عاماً، مذ كانت طفلة. فأسرتها هاجرت من المغرب بحثاً عن عمل. وتتذكر في حديثها إلى "العربي الجديد" أنّ "بيسكوبسغاردن كانت مكاناً جيداً مع شقق كبيرة لأسرنا وملاعب جمعت الأطفال من مختلف الجنسيات، ومحلات تجارية ومحلات لحوم حلال. ومع مرور السنين، صار الواقع كئيباً بسبب الخشية على الحياة ومستقبل الأبناء الذين يكبرون في ظلّ ما تفرضه العصابات من خطر علينا جميعاً".

وما تذكره أمّ سعيد هو تحديداً ما خرج به المجلس الوطني السويدي لمنع الجريمة (برا) في تقرير حديث له عن حصيلة سنوات العنف في غوتنبرغ، علماً أنّ العنف لا يطاولها وحدها. فالأمر يتكرر في مالمو وفي عموم مناطق الجنوب السويدي، وضواحي العاصمة استوكهولم. بالنسبة إلى المجلس، فإنّ المدينة تشهد سنوياً مقتل نحو 18 شخصاً تراوحت أعمارهم ما بين 20 عاماً و29، ما يضعها في مقدّمة المناطق الأوروبية الأكثر حصداً للضحايا في كلّ مليون نسمة. و18 شخصاً لكلّ مليون يقابله في معظم البلدان الأوروبية رقماً يتراوح ما بين صفر وأربعة أشخاص لكل مليون نسمة، كضحايا قتل احتراب عصابات، وتتّضح بذلك فداحة المشهد العنفي في البلاد.

والفتى مرتكب الجريمة الأخيرة، يمثّل عيّنة في إطار ظاهرة التسرّب المدرسي المسجّل في الضواحي التي يسكنها مهاجرون في جنوب السويد. فهو، بحسب وصف السلطات، ظلّ على مدى سنوات، قبل أن يبلغ السابعة عشرة من عمره، ينتهج "سلوكاً مخالفاً للمعايير. فعندما كان في الصف التاسع، حمل سكيناً ضغطها على رقبة زميل له مهدداً إياه بالقتل (على سبيل المثال). وفي عام 2019، وصل إلى السنّ التي تسمح بمحاكمته كحدث، وعلى الرغم من ذلك استمرّ في ممارساته ولم يلتزم بالمدرسة. ثمّ عمد إلى طعن أحد أقرانه بسكين على مرأى ركاب ترام، وأدين على خلفيتها بالسجن لمدّة عام في إصلاحية بتهمة الشروع بالقتل". وأخيراً، بعد اعتقاله بتهمة قتل الضابط الشرطي، مثل أمام قاضي التحقيق خلف أبواب مغلقة، نظراً إلى أنّه ما زال دون الثامنة عشرة من العمر.

الصورة
سيارات شرطة ومسرح جريمة في السويد (كريستين أولسون/ فرانس برس)
مسرح جريمة عصابات بالقرب من استوكهولم (كريستين أولسون/ فرانس برس)

تربط التقارير الرسمية السويدية ما يجري من عنف في غوتنبرغ بـ"نزاع طويل الأمد بين العصابات في المنطقة المزدحمة". وتشير وسائل إعلام سويدية، من بينها التلفزيون السويدي وصحف "أفتون بلاديت" و"إكسبرسن" و"عوتنبرغ بوستن" ووكالة الأنباء السويدية "تي تي"، إلى أنّ منطقة بيسكوبسغاردن مقسّمة إلى شمال وجنوب بين عصابتَين تتنافسان بالسلاح. وكانت مسؤولة في المجلس الوطني السويدي لمنع الجريمة، كلارا هراديلوفا سيلين، قد تحدثت عن "زيادة ملحوظة في عمليات إطلاق النار، أكثر من أي مكان أوروبي آخر". وتفيد إحصاءات المجلس المتعلقة بالضاحية المشار إليها، إلى مدى العنف الذي وصل إليه احتراب العصابات. ومن بين أخطر الحوادث التي شهدها عام 2020 وحده، انفجار سيارة مفخخة قتلت فيه طفلة في الرابعة من عمرها، وإلقاء قنبلة يدوية على شقة في الطبقة الأولى من أحد المباني السكنية فقُتل نتيجتها طفل في الثامنة من عمره، وتصفية شاب على يد مراهقَين اثنَين اختلطت عليهما هوية المستهدف الذي تبيّن أنّ لا علاقة له بالعصابات.

وعموماً، لا يمرّ عام من دون وقوع ما بين 17 إلى 19 عملية قتل في الصراع الدائر بين عصابتَي الضاحية الشمالية لغوتنبرغ حيث يُصنَّف نحو 30 ألفاً من السكان كرهائن وأهداف لنيران عشوائية وسمعة غير حسنة في المجتمع السويدي. ويخشى الأهل على مستقبل أطفالهم في ظلّ هذا الوضع المأساوي. وتقدّر السلطات أعداد أفراد العصابات بعشرات المسلحين والمستعدين للقتل والتفجير في سبيل مصالح قادتها والتربّح السهل من الجرائم باختلافها. وعلى الرغم من محاولة السلطات منذ عام 2015 تشديد الإجراءات، من بينها دفع مزيد من رجال الشرطة إلى الضواحي والتشدّد في الأحكام على المنخرطين في تلك العصابات، يشعر السكان أنّ السلطات السويدية تتركهم من دون حلول جذرية.

الصورة
رجال شرطة ومسرح جريمة في السويد (بيورن لارسن روسفال/ فرانس برس)
مسرح آخر لجريمة عصابات في غوتنبرغ (بيورن لارسن روسفال/ فرانس برس)

ويتّفق محمود عمر وأمّ سعيد على أنّ "المنطقة لم تعد مريحة للسكن"، وأنّه على الرغم من كل ميّزاتها يفكّران في الانتقال منها، "لكنّ البلديات للأسف لا تساعد بقوانينها على الانتقال". والواقع المزعج في السويد هو أنّ البلاد تشهد مزيداً من الفوارق الطبقية، إذ ينتمي معظم سكان الضواحي إلى الطبقات المعروفة بأنّها فقيرة وأكثر عرضة للمشكلات الاجتماعية. وقد ازدادت في خلال الأعوام الماضية رغبة الناس في الانتقال إلى مناطق لا تشهد تهميشاً وفوارق الطبقية، مثلما تفيد دراسة حديثة أُعدّت في العام الجاري حول "الفوارق الاقتصادية في السويد". وتشير تلك الدراسة إلى أنّه في حين احتاجت السلطات في عام 1990 إلى نقل نحو 27 في المائة من سكان ضواحٍ فقيرة من أصحاب المداخيل المنخفضة لتأمين بعض العدالة والتساوي مع أصحاب الأجور المرتفعة، فإن النسبة المئوية لمحتاجي النقل ارتفعت إلى 41 في المائة في عام 2018.

ويشرح عمر أنّه بالنسبة إلى سكان الضواحي، فإنّ "اختيار المسكن فيها يأتي على خلفية أجرة السكن. وليس بيد الساكن في هذه الضاحية فرصة للانتقال إلى العيش في خارجها إذا لم تساعد الدولة والبلديات بمساعدة الأسر لإيجاد سكن بديل". يضيف عمر أنّ "ثمّة جمعيات سكنية لم تعد تحبّذ إسكان عائلات راغبة في الانتقال من ضواحي غوتتبرغ ومالمو. فبمجرّد الاطّلاع على الرمز البريدي لمنطقة السكن السابقة، يتردد مسؤولو شركات الإسكان خشية من انتقال المشكلات إليها مع انتقال سكان جدد. وهذه معضلة تحتاج إلى حلّ من قبل الحكومة". وأظهر استطلاع حديث للرأي في سياق تقرير شامل صدر في يونيو/حزيران الماضي عن أوضاع 110 آلاف مواطن من أصول صومالية، أنّ كثيرين من سكان الضواحي يرغبون في الانتقال منها لولا المصاعب المالية.

الجريمة والعقاب
التحديثات الحية

وأدّى مقتل الضابط الشرطي في غوتنبرغ إلى إعادة طرح ملف سياسة الهجرة والدمج مجدداً على الساحة كأولوية لدى الشعب والأحزاب السياسية السويدية، قبل عام من الانتخابات العامة المزمع عقدها في سبتمبر/أيلول 2022. يُذكر أنّ اليمين المتشدد يسجّل تقدماً في الاستطلاعات، بالإضافة إلى تأثير مثل تلك الأفعال على المزاج العام لدى اليمين التقليدي والشارع السويدي. ويأتي ذلك مع تزايد وتيرة الجريمة المنظمة التي تستهدف في أغلبها البيئات المهاجرة، بما في ذلك أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة (متاجر ومطاعم) الذين يتعرّضون إلى فرض إتاوات شهرية.

وسط ذلك، ثمّة غياب لتعاون الشهود مع الشرطة السويدية، خوفاً من أعمال انتقامية من قبل أفراد العصابات الذين يُرهبون السكان مع غياب حماية السلطات للشهود، بحسب ما أفاد تقرير للتلفزيون السويدي نقل عن ضابط شرطة في غوتنبرغ أنّ الثمن الذي تدفعه مجتمعات الهجرة يكون مضاعفاً نتيجة تلك الممارسات المتعارضة مع قيم المجتمع السويدي. وقال الضابط المسؤول في شرطة ضاحية بيسكوبسغاردن، أولف بروستروم، وهو يبكي في 27 يونيو/حزيران الماضي: "إذا لم تكن لديك أسرة كبيرة تستطيع حمايتك من العصابات المنظمة وجرائمها، فإنّك سوف تخسر عملك وربّما أسرتك نتيجة فرض الإتاوات والعنف المنظّم. وما يضاعف الخسائر هو أن تكون السلطات غير آبهة بتقديم مساعدة لانتقال الناس من السكن في ضاحية بيسكوبسغاردن، فيما نتحمّل نحن مسؤولية السماح لتلك العصابات بالانتشار في كلّ مدن السويد تقريباً. وهو ما يجعل الانتقال والحماية عمليتَين صعبتَين بسبب وجود عيون وآذان لتلك العصابات في كلّ مكان تقريباً".

المساهمون