تونسيات يكتمنَ تعرّضهنّ للعنف

29 ديسمبر 2021
من تظاهرة أخيرة مندّدة بالعنف ضدّ المرأة (حسن مراد/ Getty)
+ الخط -

 

هل تشكو النساء ضعفهنّ؟ هل يروينَ قصصهنّ مع العنف؟ هل من آذان صاغية لهنّ أم إنّهنّ يدفنّ حكاياتهنّ في دواخلهنّ؟ هل يَخفنَ البوح بمشكلاتهنّ اتّقاء للوصم المجتمعي والعائلي؟ تساؤلات تُطرح فيما يسجّل العنف ضد المرأة في تونس أعلى النسب في السنوات الأخيرة، علماً أنّها تضاعفت سبع مرّات في خلال فترة الحجر الصحي في عام 2020 لتصل إلى حدود 80 في المائة وفق إحصاءات رسمية. وبحسب المعطيات الأخيرة، يحلّ العنف الزوجي في المقدّمة مع نحو 75 في المائة من حالات العنف ضد المرأة المبلّغ عنها عبر الخط الأخضر 1899، ما بين الأوّل من يناير/ كانون الثاني 2021 و30 سبتمبر/ أيلول منه.

كثيرات هنّ التونسيات اللواتي يتجنّبنَ الخوض في ما يتعرّضنَ له من انتهاكات ومضايقات يومية وعنف بكلّ أشكاله سواء أكان ذلك في داخل المحيط الأسري أو خارجه، إمّا عن وعي أو عن غير وعي، وإمّا خوفاً من تهديدات أزواجهنّ أو عائلاتهنّ، إلى أن يتحوّل الأمر إلى ضغوط نفسية مضاعفة قد لا تُحمد عُقباها بسبب الكتمان المتواصل. 

ويُجمع متخصصون في علم النفس على أنّ عواقب وخيمة قد تنجم عن كتمان النساء تعرّضهنّ إلى العنف، منها الاكتئاب الشديد الأمر الذي يدفع في اتّجاه رحلة علاج نفسي مؤبّد. لكنّ لا إحصاءات رسمية حول نسب النساء اللواتي يقصدنَ عيادات الطبّ النفسي على خلفية العنف الذي يتعرّضنَ له. وفي ما عدا الخطوط الخضراء المفتوحة للتبليغ، لا تتوفّر آليات واضحة ودقيقة لمعرفة حجم الأضرار النفسية للنساء المعنّفات ولا تفاصيل عن رحلة علاجهنّ النفسي في حال أقدمنَ على ذلك. 

هناء (اسم مستعار) تبلغ من العمر 40 عاماً وهي واحدة من النساء التونسيات المعنّفات. تخبر "العربي الجديد": "وقعت ضحية اغتصاب جنسي من قبل أخي في سنّ المراهقة، وقد تواصل الأمر لسنوات قبل أن يتوقّف عند التحاقي بالجامعة. سنوات مرّت، لكنّ الجرح ما زال ينزف في داخلي حتى اليوم، علماً أنّ أحداً من عائلتي لا يعلم بهذه المصيبة". وتؤكد هناء أنّ "هذا الأمر يُنكّد عليّ حياتي ونفسيتي حتى اليوم، غير أنّ ملامحي وتصرّفاتي لا توحي بأنّني تعرّضت إلى الاغتصاب من قبل أخي. والحديث في حلقات النقاش عن هذه المواضيع يُثيرني من الداخل ويُرعبني، لكنّني لا أتحدّث مطلقاً عمّا عشته".

وتشير هناء إلى أنّه "بمجرّد التفكير في التوجّه إلى طبيب نفسي، أشعر بإرهاق نفسي وكذلك جسدي. وفي اليوم الذي قرّرت فيه تلقّي العلاج، تحدثّت إلى المتخصصة عن كلّ ما يؤرقني إلا هذا الموضوع. شعرت بتجمّد روحي وعروقي ولم أستطع الخوض فيه. وتوقّفت عن العلاج نهائياً بعد جلستَين فقط". تضيف هناء: "أشعر بثقل نفسي وبألم شديد وأموت مرّات ومرّات، خصوصاً إذا عُرض عليّ الزواج. أعلم أنّني قد أكون في حالة اكتئاب مخفية من الممكن أن تنفجر إلى العلن، ومع ذلك أخاف البوح بما أشعربه".

من جهتها، تتحدّث فتحية (اسم مستعار) لـ"العربي الجديد" عن والدتها وحالتها النفسية. تقول: "لم أتوقّع يوماً أن تهجر أمّي بيتها وهي في سنّ تقارب 70 عاماً بسبب ما تتعرّض إليه من تنكيل ومضايقات يومية منذ سنوات طويلة من قبل والدي. هي تمرّ بحالة نفسية صعبة على الرغم من سنّها، وقد آويتها أنا وزوجي في بيتنا، لعلّنا نتمكّن من مساعدتها في الخروج ممّا هي فيه نظراً إلى رفضها الخضوع لأيّ علاج نفسي".

تُضيف فتحية: "أمي واعية بما مرّت به وكانت دائما تطلب الطلاق والانفصال، لكنّ العائلة والمجتمع لم يرحماها فظلّت تُقاوم لسنوات من أجلنا إلى أن انهارت كلياً في آخر موقف حدث في منزلها. فقد طردها والدي من البيت فجر أحد الأيام وتركها في الشارع من دون أيّ وسيلة اتصال، فقرّرت عدم العودة نهائياً. وعلى الرغم من أنّها اتّخذت قرارها، فإنّها تشعر بالذنب تجاه نفسها لأنّها لم تقدم على هذه الخطوة قبل سنوات طويلة، فهي كانت لترحم نفسها من رحلة العذاب التي عاشتها معه وتعيش تداعياتها اليوم". وتلفت فتحية إلى أنّها عرضت حالة والدتها أمام طبيب متخصّص في الأمراض النفسية والعقلية، "فقارب تشخيصه أنّها تمر بحالة اكتئاب تستوجب المرافقة والحماية النفسية المتواصلة حتى لا تتعكر صحتها".

الصورة
نساء تونسيات في تحرك مناهض للعنف ضد المرأة في تونس (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
تكثر التحركات المطالبة بمحاسبة منتهكي حقوق المرأة والمعتدين عليها في تونس (فتحي بلعيد/ فرانس برس)

تكثر العواقب النفسية الناجمة عن تعرّض المرأة إلى العنف، وهي تنقسم إلى مستويات عدّة بحسب ما تشرح رئيسة قسم الطب النفسي في "مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبية" الدكتورة رابعة الجملي لـ"العربي الجديد". وتقول إنّ "التأثيرات الحادة تبدأ فور تعرّض المرأة إلى العنف، وتتضمّن الشعور بالاضطهاد والخيبة والعجز والغضب، وهي مرحلة يمكن وصفها بأنّها مرحلة ردّ الفعل. ثمّ تأتي التأثيرات المزمنة وطويلة الأمد بسبب العنف الذي يكون متواصلاً ومتكرراً وممتداً لسنوات، ونجد هذه التأثيرات عندما لا تطلب الضحية المساعدة ولا تتحدّث عن العنف الذي تتعرّض إليه وتخفي وضعها. وهذا ما يخلق نوعا من الهشاشة النفسية المتراكمة إلى أن تصل إلى حالة الاكتئاب. ويُضاف إلى ذلك اضطراب ما بعد الصدمة".

تضيف الجملي أنّه "في حال كانت الضحية في المرحلة الأولى من التأثيرات الحادة ولم تتكتّم عن الوضع الذي تواجهه ووجدت المساعدة، فإنّها قادرة على تجنّب الوصول إلى مرحلة الاضطراب المزمن. لذلك فإنّ كلّ المنظمات المدافعة عن المراة تدعو النساء إلى الحديث والإفصاح عن حالاتهنّ، كذلك تدعو إلى خلق مجال وفسحة للعناية منذ البداية حتى لا تتفاقم الحالة إلى ما هو أسوأ". وتوضح أنّ "أوّل الحلول لإنقاذ هذه الفئة من النساء هو ضرورة تسخير من يستمع إلى المعنّفات، ومحو الشعور الذي في داخلهنّ بأنهنّ يستحققن ذلك العنف بسبب سوء تصرّفهنّ، وتفنيد كلّ الأعذار التي يصرّ الجلاد على اختلاقها وتكرارها مع كلّ اعتداء".

وفي سياق متصل، كانت رئيسة "جمعية المرأة والمواطنة" بمحافظة الكاف (شمال غرب) كريمة بريني قد أكّدت في تصريح إعلامي أوّل من أمس الإثنين أنّ تقريب الخدمات القانونية من النساء ضحايا العنف وإعلامهنّ بالقوانين التي تحميهنّ وترفع عنهنّ حاجز الصمت والخوف. وهو ما دفع الجمعية إلى إطلاق تطبيق "منارة نات" الذي يتضمّن المعلومات القانونية المبسّطة بما يمكّن المرأة من الولوج الى المعلومات القانونية. تجدر الإشارة إلى أنّ المعطيات الميدانية تظهر أنّ النقاط التي تمّ تركيزها بالشراكة مع وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السنّ لتقديم المعلومات القانونية تستقبل أقلّ من 20 في المائة من النساء من الوسط الريفي.