"لقد حطّموا نظامنا الصحي" عنوان غلاف العدد الذي أصدرته صحيفة "ميرور" البريطانية قبل يومين، والذي عرض أيضاً صورة مركبة جمعت رئيس الحكومة الحالية لحزب المحافظين ريشي سوناك مع نظرائه السابقين ليز تراس وبوريس جونسون وتيريزا ماي وديفيد كاميرون. وكتبت الصحيفة: "ألقى هؤلاء الزعماء باللائمة على كوفيد-19 مرات، ومرات أخرى على الإنفلونزا الموسمية أو المستوصفات أو الممرضات، لكننا نعرف أن اللوم كله يقع على 13 سنة من رئاستهم الحكومات".
وكان سوناك تطرّق في خطابه للعام الجديد إلى الكارثة التي تعيشها خدمة الصحة الوطنية (إن إتش إس)، متعهداً "بالعمل ليلاً نهاراً لتغيير الواقع المتردّي، وزيادة عدد الأسرّة في المستشفيات إلى 7 آلاف سرير، والحدّ من فترات الانتظار المخزية التي تؤثّر على ملايين المرضى قبل أن يستطيعوا الوصول إلى الرعاية الطبية الطارئة"، وهو ما عاشه أحد صحافيي "العربي الجديد" حين اضطر إلى التوجّه إلى طوارئ أقرب مستشفى مستقلاً سيارة أجرة، بعدما انتظر أكثر من ساعة وصول سيارة إسعاف، علماً أن حالته كانت تستدعي رعاية عاجلة.
وقبل جائحة "كوفيد- 19"، كانت سيارة الإسعاف تصل خلال أربع دقائق كحدّ أقصى إلى مرضى الطوارئ من الدرجة الأولى، كما جرى العمل لتخفيض هذه المدة الزمنية إلى ثلاث دقائق، أو حتى إلى دقيقتين، أما اليوم فيدفع انضمام المسعفين إلى الاضطرابات التي ينظمها الممرضون والممرضات الحكومة إلى الاستعانة بأفراد من الشرطة والقوات المسلحة لسدّ الفراغ، ونقل المرضى إلى المستشفيات. وحتى اللحظة، لم تردّ الحكومة على مطالب العاملين في القطاع الصحي، سوى عبر اتخاذ تدابير مؤقتة وغير فعّالة في التعامل مع تداعيات الإضرابات، بدلاً من تقديم تنازلات خصوصاً على صعيد جعل الأجور تتناسب مع مستويات التضخّم القياسية.
سوناك "المنفصل" عن الواقع
واعترف سوناك، في خطابه قبل يومين، بحجم الكارثة، مشيراً إلى أن الأولوية بالنسبة إلى الناخبين "لم تعد سياسية كما كانت في السابق، بل تتعلّق بحياتهم اليومية، والمستوى المتردي للخدمات، والشلل الذي يعاني منه قطاع الصحة، وأزمة المعيشة غير المسبوقة". لكن منتقديه لا يؤيدون هذا الرأي، ويقولون إن "الفصل بين أزمة قطاع الصحة والخيارات السياسية لحزب المحافظين ليس واقعياً".
ورغم أن سوناك ولد في عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى وامتهن والده الطب وأمه الصيدلة، لكن انفصاله عن الواقع واضح اليوم أكثر من أي وقت مضى. ويرى محللون أنه "إذا كان تفادى قضية التهرّب الضريبي، التي لاحقت زوجته الثرية عندما كان وزيراً للمالية، سيصعب عليه اليوم تجنب الضرر الذي يحدثه سلوكه في موقع زعيم حزب المحافظين ورئاسة الحكومة".
كوكب "داونينغ ستريت"
وقبل شهرين، سرّبت صحيفة "ذا غارديان" معلومات، رفضت "داونينغ ستريت" (مقر رئاسة الحكومة البريطانية) التعليق عليها، وتفيد بأن سوناك وأفراد عائلته مسجّلون في عيادة خاصة غرب مدينة لندن، في ظل تفضيلهم الابتعاد عن قطاع الصحة العام.
وذكرت الصحيفة أن "القيمة الأدنى للاستشارة الطبية في هذه العيادة الخاصة تبلغ 250 جنيهاً إسترلينياً (300 دولار) للقاء لا تتجاوز مدته نصف ساعة، في حين تتراوح خدمة الزيارة الطبية المنزلية بين 400 و600 جنيه إسترليني (480 دولاراً و722 دولاراً)". كما أشارت إلى أن "العيادات الخاصة تمنح مرضاها خدمات طارئة مثل الاستشارة العاجلة خارج أوقات الدوام وخلال العطل الرسمية والأعياد، والاستشارات الهاتفية أو الافتراضية في أي لحظة من اليوم".
وسبق أن رفض سوناك الإجابة عن سؤال وجهه أحد الصحافيين خلال قمة مجموعة الدول العشرين، التي استضافتها جزيرة بالي في إندونيسيا، حول ما إذا كان يتمتع مع عائلته برعاية صحية خاصة، واكتفى بالقول إنه "من غير المناسب التطرّق إلى الرعاية الصحية لأسرتي"، ما شكل رداً "قاتماً وصارخاً" في وقت تقدّر فيه الكلية الملكية لطب الطوارئ أن 500 شخص يفارقون الحياة أسبوعياً نتيجة مباشرة وغير مباشرة لقوائم الانتظار الطويلة، والتأخّر في الاستجابة لحالات الطوارئ العاجلة، علماً أن خدمة الصحة الوطنية و"داونينغ ستريت" رفضا الاعتراف بهذا الرقم، لكن صحيفة "فايننشال تايمز" نقلت عن الخبير الصحي ديفيد شبيغل هالتر قوله إن "هذا الرقم معقول وغير مبالغ به".
واللافت أن سوناك ليس وحده الذي يعيش على كوكب آخر، إذ سبقه إلى ذلك معظم زعماء حزب المحافظين، وبينهم مارغريت تاتشر، التي اعترفت عام 1987 بالتأمين الصحي الخاص الذي يمنحها حق الذهاب إلى المستشفى في اليوم الذي تريده والوقت الذي تريده، واستشارة الطبيب الذي تختاره، وكذلك بوريس جونسون، الذي اعترف بأن خدمة الصحة الوطنية أنقذت حياته حين أصيب بـ "كوفيد-19"، لكنه مسجّل في عيادة خاصة يزورها متى يشاء.
ووصلت قوائم الانتظار في المستشفيات إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق في أنحاء المملكة المتحدة، حيث ينتظر اليوم أكثر من 9 ملايين شخص بدء العلاج، وهو الرقم الأكبر منذ بدء إحصاء المرضى في أغسطس/ آب 2007، أما من يحتاجون إلى رعاية فورية وطارئة، فينتظرون وصول سيارة الإسعاف ساعات وساعات، ثم ينتظرون ساعات أيضاً في سيارات الإسعاف نفسها خارج وحدات الطوارئ المزدحمة التي تستخدم عدد أسرّة غير كافٍ، وتفتقر إلى طواقم طبية تتناسب مع عدد الحالات.
وقبل أسبوع، أعلن "داونينغ ستريت" تخصيص مبلغ 500 مليون جنيه إسترليني (600 مليون دولار) لتسريع خروج المرضى من المستشفيات من خلال توفير أسرّة إضافية، لكنه لمّح أيضاً إلى أن "بعض البريطانيين سيجدون صعوبة كبيرة في الوصول إلى خدمات الصحة الوطنية هذا الشتاء".
ورد معارضو الحكومة ومنتقدوها بالتشكيك في وصول هذه الأموال، واتهموا سوناك بـ"الانفصال عن الواقع وعدم الاعتراف بحجم الكارثة والترويج للأوهام، لأن مشكلة قطاع الصحة لا تنحصر في ضعف التمويل، بل تعتبر أعمق، وترتبط بالخيارات السياسية الخاطئة المتراكمة منذ أكثر من عقد، وضعف التمويل والاستثمار في القطاع الصحي والقوى العاملة، وتجاهل تحذيرات الاختصاصيين بشأن النقص الهائل وتآكل البنية التحتية".
"الازدحام المرعب"
وتقول نيرينغا، طبيبة الأطفال في أحد مستشفيات خدمة الصحة الوطنية، لـ"العربي الجديد": "منذ أن بدأت في ممارسة عملي قبل عشرين سنة، لم تشهد المستشفيات هذا الازدحام المرعب، ولا حجم الضغوط الكبيرة التي يعيشها موظّفو القطاع من دون أن تتناسب مع معدّل أجورهم، وقدرتهم على التحمّل". وتبدي نيرينغا دهشتها لأداء الحكومة التي تصرّ على التهرّب من أصل المشكلة بحجة وباء كورونا حيناً، والغزو الروسي على أوكرانيا حيناً آخر، وتعتبر أن "القيود التي فرضتها الحكومات على مواطنيها خلال الجائحة كانت سيفاً ذا حدّين، إذ ساهمت بالحدّ من الوباء، لكنها أضعفت في الوقت ذاته مناعة ملايين، وباتت تساهم اليوم في مستويات خيالية من الحاجة إلى دخول وحدات العناية المركزة".
سوناك والناخبون
وفي السياق، أظهر استطلاع للرأي أجراه موقع "يوغوف" للإحصاءات أن 56 في المائة من البريطانيين يلومون الحكومة على تردّي الخدمات الصحية، وليس الممرضين والممرضات والمسعفين المضربين، ما دفع سوناك ربما إلى دعوة الناخبين للحكم على فترة ولايته انطلاقاً من التزامه بتنفيذ 5 وعود أطلقها في خطابه الأول هذا العام. لكن اللافت في هذه الوعود الخمسة هو ضياع أزمات أكثر القطاعات حيوية في البلاد في زحمة الأولويات الأخرى التي تشغل "حزب المحافظين"، إذ لم يحتلّ الحديث عن الكارثة الصحية إلا جزءاً يسيراً من خطابه الذي تناول فيه شؤون الأزمة الاقتصادية، مطلقاً 3 وعود تتعلق بتخفيض التضخم والديون الوطنية، وتنمية الاقتصاد، وتأمين فرص عمل أوفر وأكثر اتساعاً.
ويرى مراقبون أن السيطرة على التضخّم لن تحلّ مشكلة قطاع صحي تآكل على مرّ سنوات من حكم حزب المحافظين، كما أن إيقاف عبور طالبي الحماية الإنسانية لن يخفض ساعات الانتظار أو يسرّع وصول سيارات الإسعاف قبل أن يفارق المرضى الحياة.