العام الدراسي... دولة مفلسة ومانحون يرفضون مساواة اللبناني بالسوري

08 أكتوبر 2023
التعليم الرسمي شبه معطّل في لبنان (حسام شبارو/ الأناضول)
+ الخط -

يبدأ العام الدراسي في لبنان مع طرح أسئلة عدة تشمل الأهل والمعلمين وتلاميذ القطاعين الخاص والعام والوزارة والمدارس، وأيضاً اللاجئين الفلسطينيين والسوريين الذين يحصدون ثمار طردهم من بلادهم.
بعدما أعلن وزير التربية والتعليم العالي في لبنان، عباس الحلبي، الشروع في الأعمال الإدارية للعام الدراسي 2023 – 2024 في 14 أيلول/ سبتمبر الماضي، أرجأ هذا الموعد إلى 25 سبتمبر/ أيلول، علماً أن موعد فتح المدارس الحكومية أبوابها هو يوم غد الإثنين.
ويعود التأجيل إلى جملة تعقيدات تدفع معلمي القطاع الرسمي إلى رفض العودة إلى التعليم من دون أن تتحقق مطالبهم التي باتت معروفة لأنها تتكرر سنوياً. أما في مدارس القطاع الخاص فباشرت معظمها التعليم كما جرت العادة سنوياً، لكن ذلك لا يمنع القول إن أوضاعها ليست على ما يرام، فقد ينفجر الوضع بين نقابة معلمي المدارس الخاصة وأصحاب المؤسسات التربوية، ما يجعلهم يلتحقون بإضراب زملائهم في القطاع العام في حال عدم الالتزام بما اتفقا عليه.

ميزانية مفقودة
لن تسمح الضغوط التي ظهرت في هذا الملف قبل بدء العام الدراسي بتأمين الوزير الحلبي باقي الميزانية التي عرضها على مجلس الوزراء وقيمتها 150 مليون دولار، والتي قال إنها تكفي لتأمين استقرار العام الدراسي. وقد وافقت الحكومة على تحويل سلفة خمسة آلاف مليار ليرة، أي نحو 55 مليون دولار، وهو مبلغ متواضع في وقت يبقى توفير باقي الميزانية السنوية المطلوبة، وهي 95 مليون دولار، على عاتق الدول والمنظمات المانحة، وهو غير متوافر إلى الآن كما هو معلوم.
ويتوزع هذا المبلغ على منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) التي تموّل صناديق المدارس والأهل بمبلغ 158.75 دولاراً عن كل طالب سوري (موزعة على 140 دولاراً لصندوق المدرسة و18.75 دولاراً لصندوق مجلس الأهل)، فيما تكتفي بدفع 18.75 دولاراً عن كل طالب لبناني إلى صندوق الأهل، علماً أن مساهمة صندوق الأهل عن كل طالب لبناني كانت 90 ألف ليرة قبل الأزمة (60 دولاراً سابقاً)، وتلك لصندوق المدرسة 150 ألف ليرة (100 دولار سابقاً).
ويرفض المانحون دفع المساهمات بقيمتها الدولارية ما قبل الأزمة، رغم أن معدلات التضخم زادت، كما لا يجري تأمين المبالغ المطلوبة لتكريس مبدأ مجانية التعليم الأساسي، باعتبار أن "يونيسف" لا تدفع المساهمة المطلوبة عن الطلاب اللبنانيين إلى صندوق المدارس. من هنا يضغط الأساتذة على المانحين لمساواة التلاميذ اللبنانيين بالسوريين، وبالتالي رفع تكلفة تعليم التلميذ اللبناني إلى 600 دولار.
لكن المشكلة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه مع المنظمات والدول المانحة، فالمبلغ الذي قررت الحكومة اللبنانية دفعه للوزارة كأجور للأساتذة ومصروفات أخرى لم يفرج عنه من حسابات الدولة لدى مصرف لبنان تمهيداً لتحويله إلى حسابات المعلمين. وهذه المشكلة تشمل كل مؤسسات القطاع العام (كهرباء وماء وبريد واتصالات وغيرها) التي تسلّم إلى المصرف المركزي، بحسب النظام المالي للدولة، ما تحصل عليه من أموال الخدمات التي تقدمها للمواطنين، وتحصل منه على ما تحتاجه استناداً إلى الميزانية العامة التي تعدها وزارة المالية، وتوزعها لتغطية الإنفاق الخاص بالوزارات والمصالح.
وأعلن المصرف المركزي بإدارة حاكمه الجديد بالوكالة وسيم منصوري الذي تسلّم المنصب بعد انتهاء ولاية حاكمه السابق رياض سلامة، أنه لن يقرض المؤسسات العامة أي أموال بالدولار أو بالليرة، كما لن يحوّل المبالغ التي تملكها هذه المؤسسات بالعملة الوطنية إلى دولار بحجة أن هذا الأمر يضغط على سعر الليرة في سوق الصرف، ما يزيد من تراجع قيمتها. 

مساهمات الدول المانحة لا تساوي بين التلاميذ اللبنانيين والسوريين (أنور عمرو/ فرانس برس)
مساهمات الدول المانحة لا تساوي بين التلاميذ اللبنانيين والسوريين (أنور عمرو/ فرانس برس)

وعود أدراج الرياح
والعام الماضي، وعدت وزارة التربية بمنح أموال بالدولار لمعلمي المرحلتين الأساسية والثانوية للحدّ من انهيار أوضاعهم المالية والاجتماعية. وفعلاً تسلّم قسم من المعلمين مبالغ تراوحت بين 100 و200 دولار، لكن لأشهر قليلة فقط، ما جعلهم يتوقفون عن التعليم وينفذون إضرابات واعتصامات متتالية طالبت بالحصول على المبالغ المقررة قبل العودة إلى المدارس، وهو ما لم يحصل، فذهب أكثر العام الدراسي أدراج رياح الإضرابات واضطرت الوزارة لإلغاء امتحانات الشهادة المتوسطة واكتفت بامتحان الثانوية العامة.
وحالياً حدد المعلمون مطالبهم بالحصول على راتب شهري لا يقل عن 600 دولار تقبض نقداً بالدولار والليرة، وهو ما لا تستطيع الدولة توفيره، علماً أن المبلغ المذكور يجب أن يستكمل مع مخصصات للاستشفاء والطبابة والمواصلات والضمانات الاجتماعية وغيرها.
وحاول الحلبي مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مساواة الأموال بالدولار التي يحصل عليها التلاميذ اللبنانيون مع تلك الممنوحة للاجئين السوريين في المدارس اللبنانية من خلال قروض وهبات من الدول والمنظمات المانحة (يونيسف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ودول أوروبية وآسيوية). وهما ناقشا ذلك أكثر من مرة مع الجهات المعنية من دون التوصل إلى نتائج إيجابية.
وبغض النظر عن سعر صرف الدولار في السوق اللبناني، يلاحظ التراجع الحاد في ميزانية وزارة التربية والتعليم العالي التي تشمل نفقات تشغيل المدارس الرسمية ومتطلباتها، أجور ورواتب أساتذة وكليات الجامعة اللبنانية.
وقد تراجع الإنفاق على التعليم الرسمي من 9.3 إلى 3.2 في المائة من ميزانية الدولة حالياً، أي نحو ثلثي الموازنة السنوية، ما لا ينعكس فقط على الرواتب والأجور، بل يمتد إلى نفقات الكهرباء والمياه والتجهيزات الإلكترونية والقرطاسية والنثريات وغيرها. والأهم توفير ثمن المشتقات النفطية لتدفئة المدارس خلال موسم الشتاء، حيث تتدنى الحرارة في المناطق الجبلية والداخلية إلى درجات التجمّد، علماً أن ميزانية هذه الوزارة قبل الحرب وحتى خلال سنوات هذه الحرب كانت تتجاوز الـ 13 في المائة من الميزانية العامة.

لبنان منارة الثقافة من الماضي وسط المشاكل (أنور عمرو/ فرانس برس)
لبنان منارة الثقافة من الماضي وسط المشاكل (أنور عمرو/ فرانس برس)

ضغوط المعلمين
وواضح أن المعلمين والأساتذة يعيدون تكرار سيناريو العام الماضي عبر الضغط على المنظمات والدول المانحة من أجل الحصول على نسبة معينة من رواتبهم بالدولار. كما يمارسون ضغوطهم على حكومة تصريف الأعمال. وهم يرفضون أن يتعلم الطلاب السوريون خلال فترة بعد الظهر إذا لم يتعلم الطلاب اللبنانيون قبل الظهر، ويصرّون على عدم فتح المدارس بعد الظهر أبوابها قبل أن يقبل المانحون الدوليون مطالبهم. وتفتح المدارس للطلبة اللبنانيين قبل الظهر. 
وأعدّ المعلمون هذا العام استمارة أرسلوها إلى مدراء 354 مدرسة، وأظهرت نتائجها تأييد 180 مديراً عدم تسجيل الطلاب السوريين، في حين امتنع 166 مديراً عن التصويت، ورفض 8 الاستمارة. وجرى احتساب المعلمين الممتنعين عن التصويت موافقة على عدم تسجيل الطلاب.
والواقع أن الوزارة والوزير يتصرفون مع المعلمين على أساس أن "العين بصيرة واليد قصيرة" لجهة الحد من انهيار أوضاع المعلمين في المدارس صعوداً إلى الجامعة اللبنانية. فالبرامج التي أعدتها الوزارة لا تجد تمويلاً لها من الحكومة. وهنا بيت القصيد. 
وعموماً تكشف أعداد التلاميذ في المدارس الرسمية والخاصة تراجع ارتيادهم المدارس الحكومية، علماَ أن كثيرين كان يتوقعون أن يحدث العكس نتيجة الأزمة الاقتصادية المعيشية الخانقة في لبنان.
وفي ظل تزايد احتمال تعطل الدراسة يتوقع البعض أن تشهد السنوات القليلة المقبلة اضمحلالاً للتعليم الرسمي لصالح التعليم الخاص، ما سيترك بصمات على حياة البلاد السياسية وليس التعليمية فقط، باعتبار أن معظم المدارس الخاصة في لبنان تتبع مؤسسات وهيئات دينية وطائفية، مقابل عدد قليل من المدارس العلمانية. ومن الطبيعي أن توجّه كل مدرسة التلاميذ إلى المرجعيات التي تنتسب إليها، فالمدارس تنقل بشكل علني وضمني تراث وثقافة وعقائد الأهل إلى الأبناء.

 

المدارس الخاصة
وعموماً ليست المدارس الخاصة في منأى عمّا تتعرض له المدارس الحكومية، فالمبالغ التي لم يدفعها الأهل للمدارس تقدّر بمئات المليارات، ما يدفعهم إلى إخراج أولادهم من المدارس وصولاً حتى إلى ترك التعليم، في ظل عجز المدرسة الحكومية، وتوقفها عن تنفيذ مهماتها طوال العام تقريباً.
ومع تزايد عدد الأهل الذين يرغبون في نقل أبنائهم إلى القطاع الخاص قد تظهر مشكلة عجز المدارس الخاصة عن إيجاد أماكن لهم.
على صعيد آخر، اتفقت نقابة معلمي المدارس الخاصة مع أصحاب المؤسسات التربوية الخاصة على دفع ما بين 30 و35 في المائة من الرواتب القديمة للمعلمين بالدولار، ما يعني أن أجر المعلم لن يقل عن 400 دولار شهرياً، ما سيرغم الأهل على دفع ضعف هذا المبلغ للمدرسة، علماً أن مبلغ 800 دولار عن كل ولد في مدرسة خاصة يمثل عقبة يصعب تجاوزها أمام أرباب عائلات يتقاضون رواتبهم بالليرة شهرياً.
أما المياومون والعاملون بالقطعة وغيرها فيستحيل أن يوفروا ربع هذا المبلغ، ما يعني أن أبناءهم وبناتهم سيخرجون من المدرسة إلى الشارع. وينطبق هذا الوضع على الفئات المحدودة الدخل، أكانت تعيش في قرى وأرياف أو مدن. والأكيد أن اللبنانيين سيستمرون في العيش على حساب أبنائهم وبناتهم المهاجرين.
ورغم الأجواء القاتمة التي تحيط بلبنان لا بدّ من الاعتراف بأن اللبنانيين يضعون في المقام الأول دفع تكاليف تعليم أبنائهم، ولو على حساب طعامهم وشرابهم ورفاهيتهم، كما يحرص معلمون في القطاعين على بقاء المؤسسات التعليمية واستمرار دورها في ظل ظروف الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي الذي تعيشه كل المناطق والفئات، باستثناء شريحة صغيرة من المتمولين.
ورغم تزايد الاقتراحات من جانب الوزارة وتلك التي تتردد على ألسنة المعلمين في القطاعين، فذلك لا يمنع القول إن "أوضاع العام الدراسي حتى اللحظة ما تزال ضبابية لألف سبب وسبب، ومعه يصعب أن تسير الأمور بسلاسة في ظل الأزمة المحتدمة". وفيما يناضل المعلمون من أجل تأمين الحدّ الأدنى من ضرورات عيشهم، يُضاعف بعض أصحاب المدارس الخاصة الأقساط السنوية ما يحرم تلاميذ كثيرين من حق التعليم وارتياد مدارسهم.

المساهمون