في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، كان الشاب هشام أبيلغورد (كنية والدته الدنماركية)، يقف وجهاً لوجه مع موظفة في "مركز التوظيف" في بلدية آرهوس الدنماركية، حين عرضت عليه اقتراحاً عَدَّهُ صادماً. وقالت: "يمكنك الاستفادة من قانون العودة والحصول على مبلغ من المال لتأسيس حياتك في وطن الآباء".
قبل 25 عاماً، وُلِدَ هشام في إحدى ضواحي كوبنهاغن. وكان جدّه من أوائل فلسطينيي لبنان الذين وصلوا إلى البلاد في ستينيات القرن الماضي، حيث التقى أبناء الأردن وفلسطين وسورية ولبنان بأبناء المغرب العربي ويوغوسلافيا السابقة تحت أسقف المصانع التي كانت موجودة في تلك الأيام. بعضهم تزوّج في البلد الجديد، فيما أحضر آخرون زوجاتهم معهم.
هشام نفسه اليوم أب لطفلة تبلغ من العمر بضعة أشهر، ووالدته دنماركية الأصل. قصّته التي سردها لـ"العربي الجديد"، تشبه قصص آخرين، وبالأخص ممن ووصلوا إلى البلاد كلاجئين قبل نحو 5 سنوات.
رفض الشاب العرض، وقال للموظفة: "كيف تطلبين مني مغادرة بلدي؟ لم أعرف بحياتي بلداً آخر غير هذا البلد. فيه ولدت وكبرت ودرست. ربّما هناك خطأ لأنك لا تعرفين خلفية أسرتي". صدمة هشام تشبه صدمة آدم وفاطمة وسميرة وكريم وماركوس وإلياس، وهم من الجيل الثالث لمهاجرين وصلوا إلى البلاد قبل عقود. ويؤكّد بعضهم لـ"العربي الجديد"، أنهم باتوا خلال الأعوام القليلة الماضية "أكثر عرضة للتنميط". ويقول هشام: "من جهة أشعر بأنني مواطن، ومن جهة أخرى صرت أنتبه أكثر إلى تفاصيل ولهجة تمييزية تعكس مأزق الأحزاب والاتجاه نحو تبني أفكار اليمين المتعصب أكثر من السابق".
يشار إلى أن قانون "العودة وإعادة التأهيل في الوطن الأصلي"، الذي عُدّل قبل نحو عامين، كان يستهدف اللاجئين قبل أن يؤسسوا حياتهم في البلد الجديد. لكن ما تكشفه "العربي الجديد"، من خلال قصص هؤلاء من الجيلين الثاني والثالث، أنه يوجد خلف الأبواب المغلقة، وبتوصيات سياسية، استهداف حتى للأشخاص الذين لم يعرفوا وطناً غير الدنمارك.
واضطرت فاطمة (26 عاماً)، وهي من أصل مغربي، لتغيير اسمها إلى "لوتا" للعمل في مجال تسويق الهواتف. وعلى الرغم من أنها لم تر المغرب سوى مرة واحدة في حياتها، فقد حصلت على العرض نفسه، والتخلي عن الجنسية الدنماركية.
ويمكن ملاحظة أنّ الأجواء السياسية والإعلامية أخيراً بدأت تتغير. ويقول ربع مواطني الدنمارك، في إحصائية جديدة، إن "الهجرة والمهاجرين" هي ضمن مشاغلهم اليومية، وهو ما تُساهم فيه الخطابات السياسية. وتركز الإحصائيات الرسمية على تزايد "نسبة السجناء والمحكومين" من أصول مهاجرة، وتركيز ساسة اليمين ووسائل إعلام مؤيدة لأحزاب يمين الوسط إلى التركيز أكثر من السابق على "أصل شرق أوسطي" و"أصل عربي". وكان هناك فرز للمواطنين بحسب الشكل الخارجي.
في هذا الإطار، تقول موظفة في بلدية آرهوس (وسط غرب)، لـ"العربي الجديد"، إن رواية هشام وفاطمة والعشرات تُظهر أن هناك "خيوطاً عامة تُلزم المرشدين الاجتماعيين بطرح قضية العودة على الناس، ولو كانوا قد ولدوا وكبروا في البلاد". وعلى الرغم من شعورها بالأسف والإحراج بسبب اضطرار الموظفين والموظفات إلى مناقشة رحيل مواطنين عن بلدهم الدنمارك، إلا أن القضية تبدو ممنهجة وبتوجيهات سياسية.
"كيف تطلبين مني مغادرة بلدي؟ لم أعرف بحياتي بلداً آخر غير هذا البلد. فيه ولدت وكبرت ودرست. ربّما هناك خطأ لأنك لا تعرفين خلفية أسرتي"
رفضت موظفات (مرشدات) في الشؤون الاجتماعية الحديث مع "العربي الجديد" والإعلان عن أسمائهن الصريحة، إلا أن بعضهن (ممن ينتمين إلى أحزاب يسارية بالتحديد)، وافقن على الإجابة عن أسئلة "العربي الجديد" شرط عدم ذكر أسمائهن. وتقول إحداهن إنّ الأمر لا يشمل المسلمين أو ممن هم من خلفيات مسلمة فحسب، بل هناك أشخاص من أصول عراقية مسيحية جرى طرح قانون العودة عليهم، وقد صدم بعضهم، خصوصاً الذين ولدوا وكبروا في البلد، وصار لديهم أطفال. "فكيف نطلب من مواطنين مغادرة بلدهم بحوافز مالية (نحو 225 ألف كرونه، أي نحو 35 ألف دولار أميركي)؟ وفي الوقت نفسه، يدعي نظامنا السياسي أنه يحارب الظواهر الاجتماعية السلبية؟". والعبارة الأخيرة تعني مكافحة تسفير بعض الأهل للأبناء إلى الأوطان الأصلية لتزويجهم/ تزويجهن هناك، أو فرض نمط حياة محددة وصارمة يرى الدنماركيون أنها تتعارض وقيم مجتمع الحريات الشخصية في البلد.
خوف البعض من الحديث العلني عن هذه المسألة الحساسة يأتي في سياق سياسي وإعلامي سلبي هذه الأيام حول المهاجرين، وظهور خطاب يخلق أجواء معادية لهم، بسبب التصرفات السلبية من قلة قليلة عمدت إلى مخالفة قوانين البلاد، ما ينعكس على الغالبية.
حزب "اللائحة الموحدة" اليساري، وبعد طرح القضية أمام قياداته، يؤكد لـ"العربي الجديد"، رفضه هذه السياسة، مشيراً إلى أن "الحزب سيطرح بالتعاون مع أحزاب أخرى في البرلمان (الذين يشكلون قاعدة برلمانية لحكومة يسار الوسط الاجتماعي الديمقراطي)، القضية للاستماع لما يجري، وكيف تُقدّم لمواطنين شباب عروض بالخروج من بلدهم (الدنمارك) في مقابل المال".
وبعد نحو 4 أيام من الاتصالات الهاتفية مع مختلف المتخصصين الاجتماعيين وسياسيين دنماركيين ونقابة المرشدين الاجتماعيين، لوضع القضية أمامهم والتعليق عليها، خرجت مرشدتان اجتماعيتان عن صمتهما، يوم الاثنين الماضي، وكتبتا رسالة أعلنتا فيها أن الظاهرة موجودة.
الأمر لا يشمل المسلمين أو ممن هم من خلفيات مسلمة فحسب، بل هناك أشخاص من أصول عراقية مسيحية جرى طرح قانون العودة عليهم
ووجهت تانيا لارسن مع زميلتها ريكا ترولسن (مرشدتان اجتماعيتان قابلتا بعض المهاجرين)، رسالة إلى المشرعين والسياسيين الدنماركيين تذكران فيها أن "إلزام المرشدات الاجتماعيات بطرح عروض العودة في مقابل دعم مالي على دنماركيين من أصول مهاجرة إلى أوطان أجدادهم، يؤدي إلى مخاوف لدى هذا الجيل من المستقبل". وتلفت الرسالة إلى انزعاج المتخصصين في العمل الاجتماعي من "إلزامية" طرح قانون العودة في البلديات ومراكز التشغيل (جوب سنتر)، على شباب جاؤوا للبحث عن فرص عمل. بدلاً من ذلك، يضطر الموظف إلى طرح هذا السؤال: "أريد الاستماع إلى رأيك حول ما إذا كنت ترغب في العودة إلى تركيا". سؤال يوجّه لأبناء أتراك هاجروا إلى البلد في عام 1970.
ولا يُطرح السؤال على مهاجرين ولاجئين جدد، بل على مواطنين ولدوا وكبروا في الدنمارك، حتى أن بعضهم لا يتقن لغة الأجداد. ويصفه بعض موظفي البلديات بأنه تشريع سخيف يفرض منهجية طرح الموضوع على الشباب في كل لقاء معهم، أو محادثة عبر صندوق البريد الإلكتروني تحت عنوان "لا تفوّتوا الفرصة"! لكن ما هي الفرصة في أن تطلب من شخص لم يعرف وطناً آخراً غير الدنمارك أن يرحل إلى الوطن؟. (بحسب الرسالة التي وجهت يوم 12 أكتوبر/ تشرين الأول من الموظفتين، ونشرت مقتطفاتها يومية "إنفورماسيون".
وتجدر الإشارة إلى أن قانون العودة أكثر تطبيقاً في بلدية كوبنهاغن الكبرى، وتُفرد له صفحة خاصة على الإنترنت. والغريب في العرض الذي تقدمه كوبنهاغن لقانون 2018 للعودة أنه "طوعي"، بيد أنه يُلزم الموظفين بطرحه في كل لقاء تقريباً مع مواطنين من أصول مهاجرة. وفي الصفحة الرسمية للبلدية، يجري تحديد الفئات المستهدفة: اللاجئون وأصحاب إقامات لم الشمل مع اللاجئين، أو المهاجرون الذين أقاموا خمس سنوات، والمهاجرون الذين جاؤوا إلى البلاد قبل 1983. وثمة بند يستهدف هؤلاء الشباب، ويتضمن: "إذا كنت تملك جنسية مزدوجة إلى جانب جنسيتك الدنماركية، فيتحتم عليك التخلي عن الدنماركية للاستفادة من قانون العودة".
إلى ذلك، تشعر بعض المرشدات الاجتماعيات بالإحراج. وجاء في الرسالة أن الجلوس مع لاجئة من سورية هربت من الحرب وتعيش أعراض ما بعد الصدمة نتيجة القنابل والتدمير وتعرُّض أحد أفراد الأسرة للتعذيب والقتل وفقدان البيت المدمر، وعرض العودة عليها هو أمر صعب. وجاء في الرسالة أن إحدى المرشدات قالت لها: إهدئي، سوف نساعدك ببعض المال لتعودي من حيث أتيت إلى تلك الظروف التي هربت منها.