في زمن وباء كورونا، كان الخيار المتاح في ظل ظروف بالغة القسوة هو الاستعانة بمصادر التعلم والتعليم عن بُعد للتخفيف من فقدان التعلم الحضوري. فقد تبين أنّ الأهل أنفسهم ليسوا على استعداد لإرسال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس والجامعات في ظل خطر مخيِّم على الأجواء، لا يدرون معه كيف يتسرب الوباء إليهم، ويضعهم في خانات أرقام المصابين اليومية المتداولة.
ويتفاقم الخوف مع ما وصلت إليه أوضاع المستشفيات والقطاع الصحي برمته من عجز عن استيعاب أعداد المصابين، ولا سيما في الأقسام المتخصصة وغرف العناية الفائقة. العديد من الدول قررت خلال انخفاض قوة الموجة الوبائية العودة إلى التدريس المباشر. والملفت أنه لم يتم التجاوب مع هذه الرغبة الحكومية والإدارية للعودة إلى المؤسسات التربوية، لا من جانب الأهل ولا من الهيئة التعليمية.
هكذا صار الأهل والمعلمون يقررون على نحو غير مباشر متى تفتح المدارس والجامعات أبوابها ومتى تغلقها. لكن العديد من البلدان لجأت إلى خيار التعلم عن بُعد بالكامل كوسيلة للإفادة من الوقت الضائع نتيجة إقفال المؤسسات التعليمية. لكن مثل هذا الطريق يطرح أمامه الكثير من الأسئلة الملحة، وأبرزها من دون منازع هو مدى جهوزية البنية البشرية بما هي الهيئة التعليمية والأهل والتلامذة، والمادية بما تتطلبه من قدرات وإمكانات، لاعتماد خيار من هذا النوع.
فقد ثبت أن الدول الأكثر تقدماً ورفاهية هي الأقدر على السير في هذا الاتجاه، رغم ما جرى تسجيله لديها من أعطاب على الأداء والمخرجات. أما سواها فقد عانت الأمرين من عجزها عن التكيف مع وقائع الوباء القاهرة، والتغلب عليها عبر التعليم هذا. فمثلاً قامت الصين بالتدريس في كل مدارسها بالكامل عبر الإنترنت. ولم يختلف الوضع في كل من إيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي. أما في دول أخرى فقد جرى الاعتماد على الهواتف المحمولة أو البث التلفزيوني وحتى الإذاعي. لكن تبين هنا أن قدرة المدرسين والإداريين على استعمال ناجح لمثل هذه الوسائل والأدوات والعمليات اللازمة من العوامل المعيقة لتأمين هذه الأنماط من التعليم.
وتعذر تحويل مناهج دراسية مصممة بالأصل للتعليم المباشر إلى حقل تقني بصري وسمعي مختلف تماماً. وعمدت بلدان أخرى إلى ارسال الدروس إلى الأطفال عبر البريد الإلكتروني وواتساب في منازلهم كواجبات منزلية. بينما قررت للصفوف الأعلى في التعليم الأساسي والثانوي التعليم المدمج الذي جرى توزيعه بين الحضوري وغير المباشر. لكن الكثير من الدول وضعت المعلمين والإداريين في دائرة الاستهداف، وصارت وظائفهم تتحدد بشرح دروس جاهزة تصلهم من الوزارات والدوائر المختصة. وطلبت من دور النشر إتاحة المقررات والكتب المدرسية والمواد التعليمية إلى عدد من الفصول الدراسية.
لكن، مع لجوء المزيد من البلدان إلى إغلاق المدارس بالكامل برزت الحاجة ماسة إلى المزيد من الإبداع الذي مارسه المعلمون والأساتذة لضمان وصول رسالتهم إلى متلقيها من تلامذة وطلاب. فعلى سبيل المثال، قام كثيرون من أفراد الهيئات التعليمية بتكييف المنصات المتاحة للاستخدام على الهواتف الذكية. أو أنهم عقدوا اتفاقات مع شركات الاتصالات تضمن إلغاء دفع كلفة الوصول إلى المواقع خلال الأزمة، وإعفاء الأهل والإدارات المدرسية من موجباتها.
قبل أن تنتقل المجتمعات من وضع الطوارئ إلى مرحلة التعافي جاء المتحور الجديد ليعيد الأوضاع إلى الوراء. وعليه لم تتمكن لا الحكومات ولا إدارات المؤسسات من تعويض الوقت الضائع. هذا مع العلم أن العديد منها أحدثت تعديلات جزئية لم تتجاوز تخفيض كثافة مواد الامتحانات الرسمية التي أجرتها للعام الدراسي الماضي، من دون أن تحظى النتائج بالتقدير السابق من جانب المجتمع والجامعات، لجهة الثقة بجدارة استحقاقها للذين حصلوا على شهادات بنجاحهم فيها.
(باحث وأكاديمي)