يشرح المتحدّث لـ"جيل"، وهو خريج هندسة معلومات الحاسوب قبل 4 سنوات، وقوفه في طوابير الشباب الأردنيين أمثاله، على عتبات السفارات الأجنبية، الأوروبية والأميركية، يستجدون تأشيرة لهذا البلد أو ذاك، وكيف ينظر إليهم موظفو السفارات باستعلاء وتكبّر، فيتمّ رفض طلبات كثير من هؤلاء.
"لا تتوفّف الإهانات عند هذا الحدّ، بل إن بعض السفارات تمادت في ذلك، لترفض حتى استقبال الطلبات، وتحيل هذا الأمر إلى مكاتب خاصّة، تقابل من تقابل، وترفض من ترفض.."، يبين إحسان، الذي يرى في السفر آخر الفرص شبه المتاحة أمامه، ليحقّق أحلامه المتآكلة أصلًا، كما يصف.
حتى شبه الفرص هذه، كانت موضع سخرية من طرف أحد المسؤولين في وزارة العمل الأردنية، حين نقل "جيل" إليه اقتراح عدد من الشباب يخاطب فيه الحكومة ببحث مسألة الإهانات هذه، التي يتعرّضون لها وهم يداومون عند شبابيكها، فعلّق هذا المسؤول ضاحكًا في حديث لـ"جيل"، وفضّل بالطبع عدم ذكر هويته أو اسمه، أن "الحكومة يمكن أن تفكّر جديًّا في فتح حوارات ونقاشات مطوّلة مع سفراء الدول الأجنبية، وتقنعهم، أي الحكومة، بالمكاسب التي ستحقّقها قارة أوروبا والأميركيتين، بعد أن تسمح بفتح أبوابها للشباب الأردني ومنحهم التأشيرات لدولهم دون إذلال".
يضحك هذا المسؤول الحكومي، وهو مدرك تمامًا أن حكومته لم تعد قادرة على توفير الموارد المالية بغية إنعاش الاقتصاد، وعاجزة حتى عن جلب استثمارات فعالة للتقليل من معدّلات البطالة والفقر والبؤس والذلّ، التي يرزح تحت ثقلها أبناء البلد وبناته، وفوق ذلك، تطالب هذه الحكومة، وعلى لسان رئيسها هاني الملقي، الشعب بمزيد من الصبر. وفي أوّل ظهور تلفزيوني له بعد غياب طويل، تجنّب الحديث عن تحسين أوضاع المواطنين الاقتصادية وموظفي القطاع العام، ولكنّه حمّلهم مسؤولية فشل حكومته في تشجيع الاستثمار، فقال: "إن شبابنا الباحثين عن عمل، عندما تأتيهم الفرصة، ينخرطون في المشروع شهرًا، ثم يغضب أحدهم ويترك العمل، وهذا يشكّل عاملًا منفرًا للمستثمرين".
في الأردن، لا يكاد يخلو مجلس، سواء واقعيًا أو افتراضيًا، يجمع عددًا من الشباب والفتيات في الأردن، من قصص البحث عن عمل، والمعوقات التي تحول دون تشبّثهم بفرصة عمل، حتى وان كانت هذه الوظيفة بعيدة كل البعد عما تعلّموه ودرسوه في الجامعات والكليّات، فالمهم، حال الكثير منهم، العمل "ولا قعدة البيت"، ولعل المشكلة الأساسية، في نظر غالبية هؤلاء الباحثين عن عمل، ولا يمكن تجاوزها بسهولة أبدًا، بل تبدو أقرب للقفز في حلم ومن ثم العودة منه، تتمثّل بـ"الواسطة والمحسوبية".
المؤسّسات الحكومية تشكّل قبلة الباحثين عن عمل، إلا أن هذه القبلة، وفق تعبير الشابة بتول القعود، تحتاج لشعائر معينة، كلّها تنصبّ في الواسطة التي تملكها، فلم يعد ذو قيمة ما تملكه من مهارات ودراسات، ودورات تقوية ونحوها، بقدر ما يتوجّب عليك أن تستند لواسطة "ثقالة"، حتى على الأقل، أن يُقبل طلب توظيفك، ويُدرج ضمن المنتظرين.
من جهتها، تبرّر الشابة بتول، في حديثها إلى "جيل"، سعي شباب وشابات الأردن للعمل في السلك الحكومي، بالقول إن الشركات الخاصّة تفتك بالعاملين لديها، ولا تحترم في غالبيتها قانون العمل الأردني، وتعمد على الدوام لاستغلال الموظف لديها، ما حدا بكثير من الشباب لترك العمل في هذه المؤسّسات، ولم يكن قد مضى على تعيينهم أقل من شهرين.
من جانبها، تؤيّد إيمان عبد الله، وهي معلمة حديثة التعيين في مدرسة خاصّة في العاصمة عمان، كلام بتول، وتصف الشركات والمؤسّسات الخاصة بـ"الدراكولا"، التي تمتص عرق ودماء الموظفين لديها، وكل ذلك، وسط غياب للرقابة من جانب الجهات الحكومية.
ولم تكتف هذه الشركات والمؤسّسات الخاصّة بمخالفة قانون العمل، كما يبين ذلك عدد من الشباب الأردني الذين تحدث إليهم "جيل"، وإنما تتجاوزه إلى التلاعب بالرواتب، وتوظيف العاملين بثمن بخس جدًا، قد لا يغطي مصاريف المواصلات على الأغلب.
الشابة أسيل عصام، لم تتنازل فقط عن العمل في غير تخصّصها، والذي درسته طيلة أربع سنوات، والعمل في مجال بعيد عنه كثيرا، ولكنها أيضًا، رضيت مرغمة بقبول راتب قليل جدًا، تضطر معه للاستدانة من زملائها قبل نهاية الشهر.
وتشرح المتحدّثة لـ"جيل"، سبب قبولها بهذا الحال، نتيجة عدم امتلاكها خبرة في مجال عملها هذا، الأمر الذي أجبرها، ومع الوعود الزائفة من جانب ربّ عملها، بزيادة راتبها، على القبول، وهي التي درست الأدب الانكليزي، وبحثت عقب تخرّجها في كل مكان، حتى في المدارس والروضات أحيانًا.
الخرّيجون الجدد، يمكن وصفهم بـ"الطرائد" التي تبحث عنها مؤسّسات القطاع الخاص، نظرًا لأنهم سيرضون بأي راتب يُعرض عليهم، وسيكونون ممنونين لتوظيفهم، وسيواصلون العمل مدّة أكبر، بخلاف أولئك القدماء من الخريجين، الذين لن يصبروا على تذوق مرارة الانتظار في تحسين دخلهم، كما أكدت ذلك لـ"جيل"، شريحة من الشباب والشابات.
يقول رافي الحمايدة، مثلًا، إنه توظّف في وظيفة أقل من مستوى شهادته وخبرته، وبراتب هزيل جدًا، ليتركه بعد ثلاثة أشهر، نظرًا لبعد المسافة ما بين مسكنه ومكان العمل، وطموحه بدأ يخفت رويدًا رويدًا، فدفعه ذلك للبقاء في منزله، وانتظار "فرج الله"، كما قال.
وردًا على القائلين بأن الشاب الأردني لا يرضى إلا بطاولة مكتب و"سكرتيرة"، ولا يتنازل بأن يعمل في أي وظيفة حتى يأتي الوقت ويلحق بركب تخصّصه في النهاية، فإن غالبية الشباب الذين استطلع "جيل" آراءهم، هاجمت هذا الانطباع الشائع في أذهان الأهالي وأرباب العمل، ونعتته بالمغلوط المبالغ فيه، حتى وإن كان رئيس الحكومة، كما تبيّن آنفا، قد روّج لهذه المقولة.
وفي سياق آخر، أثار هؤلاء الشباب قضية سن التقاعد وتمسّك غالبية موظفي الدولة والذين سمح لهم القانون بمواصلة العمل، حتى بعد بلوغهم سن التقاعد القانوني، ما حرم عشرات الآلاف من الشباب والشابات من العمل في الوظائف الحكومية. أما بالنسبة لديوان الخدمة المدنية، المسؤول عن رفد مؤسّسات الدولة بالموظفين، فلم يعد له دور حقيقي في عملية التوظيف، سوى بإجراء امتحانات صورية وشكلية، ليتقدّم المئات من الخريجين إليها، فيتمّ قبول نسبة ضئيلة جدا منهم، استطاعت أن تستند إلى "واسطة ثقالة"، وإلحاقهم بالوظائف الحكومية، أما البقية، فلا حول لهم ولا قوة.
وبالتأكيد، فإن للجامعات والكليات دورا، كما قال عدد من الشباب، ومنهم الجامعية لارا الفاضل، في ارتفاع نسبة البطالة بين الخريجين، حيث تصرّ بعض إداراتها على فتح باب التسجيل في تخصّصات، يقال إنها أشبعت تمامًا، ولم يعد لها متّسع في سوق العمل.
فهذه الجامعات، كما توضّح لارا، والتي تدرس تخصّص العلوم السياسية، تدرك أن مثل هذه التخصّصات قد ماتت في سوق العمل، إلا أنها تصرّ على إجبار الطلبة على دراستها، بعد أن يقفل باب القبول في التخصّصات الأخرى، وهذا يؤدّي إلى الزيادة في جحافل العاطلين من العمل.
بلادة الإحساس، وترسّبات من الإحباط في قاع قلوب غالبية الشباب الأردنيين، وتحديدًا الذين يحملون شهادات دراسية عليا، تشكّلت وتطورت، حتى غدت واقعًا تعيشه فئات الشباب في الأردن، ولا يحتاج الأمر لدراسات وأبحاث لمعرفة حقيقة ولادة الأسباب التي أوصلتهم لهذه الحال، فمخاض التقاعس عن تلبية طموحاتهم، من جانب الدولة ابتداءً وأخيرًا، أفرز قاعدة عريضة من الفتيان المحبطين، أو على الأقل، مشاريع إحباط، قابلة وبكل سهولة ويسر لتتحوّل إلى قنابل موقوتة تنفجر في المجتمع.