تغلق ألمانيا، مساء اليوم السبت، 3 من آخر المفاعلات النووية، وسط قلق محلي وأوروبي من تداعيات غياب بدائل بيئية أفضل، وتأثير استمرار اعتماد البلاد على توليد الطاقة من الفحم والغاز.
قرار برلين إغلاق مفاعلاتها النووية ليس وليد اللحظة، بل منذ أن تبنته حكومة التحالف "الأحمر-الأخضر" في 2002، برئاسة المستشار الأسبق غيرهارد شرودر، بوضع جدول زمني تدريجي، تسارعت جهود الإغلاق، التي أعادت المستشارة السابقة لحكومة يمين-يسار الوسط، أنجيلا ميركل، التأكيد عليه إثر كارثة مفاعلات فوكوشيما اليابانية في2011 ، حيث جرى إغلاق معظمها. وبعد ذلك التاريخ، تزايد اعتماد البلد على مستوردات الطاقة من روسيا، وخصوصا خطي غاز نوردستريم1 و2 (سيل الشمال).
تضع برلين حدّاً لحياة 36 مفاعلاً بنتها في ستينيات القرن الماضي
وبإغلاق آخر المفاعلات اليوم، تضع برلين حدّاً لحياة 36 مفاعلاً بنتها في ستينيات القرن الماضي، وعملت على توليد الكهرباء من الطاقة النووية في بافاريا للمرة الأولى في 1961. ومنذ منتصف السبعينيات، نمت الاحتجاجات الشعبية المعارضة للمفاعلات النووية، وطالبت بشكل دائم من خلال حملات احتجاجية بإغلاقها، ما وضع الحكومات المتعاقبة في برلين تحت ضغوط كبيرة مع تزايد معسكر "لا" في الشارع، وبين الأحزاب على جهة اليسار والحفاظ على البيئة.
الظروف الأوروبية اليوم تختلف جذريا عن سنوات اتخاذ القرار، وسط اهتمام زائد بإيجاد بدائل مستدامة عن الغاز الروسي، وتطبيق سياسات التحول الأخضر التي تتأثر على ما يبدو بشكل سلبي مع إغلاق المحطات الأخيرة. أمر شبهه البروفسور وخبير الطاقة في الجامعة التقنية في كوتبوس-سينفتنبرغ، هارالد شوارز، "بمن يقفز من الطائرة ويبدأ بمناقشة خياطة المظلة وهو في طريقه للارتطام بالأرض"، بحسب ما نقلت عنه "آردي" التلفزيونية في فيلم وثائقي عن تخلي البلد عن توليد الطاقة النووية، بعد أن كان مقررا إغلاقها في العام الماضي، وتأجل بسبب غزو روسيا لأوكرانيا. وقرر المستشار أولاف شولتز تأجيل الإغلاق بعد مقاطعة الغاز والنفط الروسيين.
وبينما تدير برلين مفاتيح الإغلاق، تتجه دول الجوار الأوروبي نحو توسيع الاعتماد على الطاقة النووية، في خضم أزمة طاقة تاريخية وجدية النتائج، فرضتها الحرب في أوكرانيا ومقاطعة روسيا. ذلك ما يثير موجة انتقادات محلية وأوروبية من الانعكاسات المناخية على خطط أوروبية طويلة الأمد للتخلص من الاعتماد على الوقود الأحفوري.
وفي الوقت الذي تُقرّر برلين السير في عكس الاتجاه الأوروبي، يلاحظ منتقدو الإغلاق كيف أن فرنسا وبريطانيا وهولندا تتجه نحو بناء المزيد من المفاعلات النووية بدل إغلاقها. بل حتى بولندا التي لم تملك مثل تلك المفاعلات اتجهت لبناء ستة منها، بينما تذهب جمهورية التشيك إلى المفاعل السابع، ومددت بلجيكا العمل بمفاعلاتها إلى 2035، وسويسرا باتت تولد الطاقة من النووي، وهو ما تواصل فعله السويد وفنلندا، وتثار نقاشات في الدنمارك لتبني تلك المفاعلات باعتبارها أقل ضررا بالمناخ.
تتذرع برلين بقرار الإغلاق على أساس أن المفاعلات النووية لم تعد مسؤولة سوى عن 5 في المائة من كهرباء ألمانيا. ورغم ذلك، يعتقد خبراء في مجال الطاقة، بمن فيهم شوارز، أن تلك النسبة مهمة أيضا في الأشهر التي لا يكون فيها هناك طاقة رياح أو شمس. فالاعتماد الآن على محطات الفحم يعتبر تراجعا عن خطط التخلي عن هذا الوقود في سياق اتفاقيات المناخ، ومنها "باريس للمناخ"، وخطط التحول الأخضر الأوروبية، برأي منتقدي هذا التغيير.
وتعود أسباب الانتقادات إلى أن ألمانيا تمتلك بعضا من أسوأ محطات الطاقة التي تعمل بالفحم على مستوى أوروبا، لما تنفثه من ثاني أكسيد الكربون. وبينما تُغلق "النووية"، تطيل الحكومة الألمانية من عمر محطات الفحم والغاز، في حين تذرعت الدول الأخرى التي توسع اعتمادها على "النووية" باعتبارها أقل بكثير على مستوى تلويث المناخ، بل يعدها البعض "طاقة نظيفة".
وللوصول إلى الأهداف المعلنة عن الحياد المناخي في 2050، يعتقد كثيرون في ألمانيا وخارجها أنه لا يمكن الوصول إليها من دون طاقة نووية، وهو رأي يتبناه أيضا رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، كما ذكر لمحطة آر دي في برلين، إذ يرى أن دولا مثل الصين وأميركا والهند وفرنسا لن يكون بمقدورها أن تتخلى عن محطات الطاقة النووية، وليس لديها الوقت الكافي أو الموارد المالية لإعادة بناء كاملة لنظام الطاقة الخاص بها".
استخدام الطاقة النووية في ألمانيا وغيرها ليس من دون محاذير وسجالات تتعلق بالسلامة، كحجة للتخلص من محطاتها، وهو ما ساهم في فترات الاحتجاجات بتغيير المزاج العام. بيد أن الظروف المستجدة على مستوى القارة تفرض نقاشات عن البدائل. وحتى بين الائتلاف الحاكم في برلين تبدو الخلافات واضحة، حيث ظل حزب الليبراليين الأحرار، أف دي بي، يصارع من أجل الإبقاء على تشغيل المحطات النووية، على الأقل إلى حين إيجاد بدائل ثابتة عن الغاز الروسي، بينما في المقابل ظل الحليف الآخر في حكومة شولتز، "حزب الخضر"، مصرا على خطة الإغلاق، كما كرر نائب المستشار ووزير المناخ والاقتصاد روبرت هابيك.
أراد هابيك طمأنة الشارع الألماني إلى أن "مخزونات الغاز ممتلئة وأن محطات الغاز الجديدة قد تم بناؤها بوتيرة قياسية في شمال ألمانيا، بحيث يمكن استيراد الغاز السائل من الولايات المتحدة على وجه الخصوص". وأكد على الطاقة النظيفة، كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وما سماه "طاقة الهيدروجين الأخضر مستقبلا". الأمر نفسه يكرره الحزب الاجتماعي الديمقراطي SPD بزعامة شولتز الذي يؤكد أنه "توجد في ألمانيا قدرة كافية لتوليد الطاقة من دون طاقة نووية".
ورغم ذلك، تظهر الاستطلاعات الأخيرة، بحسب النتائج التي نشرتها الصحف المحلية عن معهد يوغوف ساعات قبل إغلاق آخر المحطات النووية، أنه فقط 26 في المائة يرون أنه من المنطقي إغلاقها في الوقت الحالي.
مسألة الإغلاق ليست الفصل الأخير في سجال النووي الألماني. فبعد ذلك ستواجه برلين الأمر المعقد الآخر لتفكيك المحطات والتخلص من النفايات النووية. على سبيل المثال، فإن محطة "إيسار2" Isar 2 لم تأخذ أكثر من 5 سنوات لتشييدها، بينما من المقدر أن تفكيكها سيحتاج إلى 17 عاما. ولم تجد ألمانيا بعد المكان الذي سيضم مستودعات نهائية للنفايات الأكثر إشعاعا، والتي يجب أن تضمن عدم تشققها خلال المليون سنة القادمة، بحسب ما كتبت زود دويتشه تسايتونغ أخيرا.
معضلة الحكومة الألمانية أنها تبرر الإغلاق خشية وقوع كوارث، بينما رأت "دير شبيغل" أن الأمر يحتوي على "كثير من النفاق، فمن الجيد الإغلاق، ولكن الأسوأ أن البيروقراطية تمنع توسيع الاعتماد على طاقة بديلة، بل تشتري الطاقة النووية من التشيك وفرنسا".
ورأت رئيسة سلطة الحماية من الاشعاعات النووية، إنغي باوليني، أن خطر وقوع حادث نووي ينخفض بعد الإغلاقات الأخيرة. وفي نفس الوقت أكدت، في بيان صحافي نشرته مختلف الصحف في برلين، أن "هناك سبع محطات للطاقة النووية في البلدان المجاورة لنا تقع على بعد أقل من 100 كيلومتر من ألمانيا، ولا يمكن إيقاف النشاط الإشعاعي عبر الحدود الوطنية".
وفي المجمل، لا يعني إغلاق آخر 3 محطات مساء اليوم السبت انتهاء السجال حول قضايا الطاقة البديلة والتأثيرات المناخية لتزايد الاعتماد على محطات تعمل بالفحم والغاز والوقود التقليدي، حيث من المتوقع أن يجعل ذلك ألمانيا متأخرة عن دول أخرى في الاستجابة لخطط التحول الأخضر الأوروبي. أضف إلى ذلك أنه من المتوقع اندلاع سجالات أخرى تتعلق بتفكيك المحطات، والتي ستأخذ سنوات طويلة، وسبل التعامل مع مخاطر مكوناتها المشعة، إلى جانب التصرف في حفظ المواد في مناطق لا تتشقق ولا تتسرب لتضر الشعب الألماني ودول الجوار.