للمرة الأولى في تاريخ التعليم في الجزائر، يتفق 14 تنظيماً نقابياً على الدخول في إضراب يستمر ثلاثة أيام بدءاً من التاسع من مايو/ أيار الجاري، كخطوة أولى تليها خطوات تصعيدية في حال رفضت الحكومة الاستجابة للمطالب المعلنة. تطوّرات يمكن اعتبارها ثورة للمعلمين على الأوضاع المعيشية والمهنية والوظيفية التي يعيشونها منذ نحو عقد من الزمن، والتي زادت تعقيداً خلال السنوات الأخيرة في ظل المتغيرات المجتمعية والسياسية والإخفاقات المستمرة في خطط إصلاح نظام التعليم. وخلال العقدين الماضيين، تعاقب على وزارة التربية الوطنية في البلاد أكثر من سبعة وزراء. وطرحت السلطة السياسية ثلاثة مشاريع وخطط لإصلاح نظام التعليم. وفي عام 2002، شكل الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية، والتي توصلت في النهاية إلى صياغة تقرير ومجموعة من التوصيات وضعتها الحكومة قيد التنفيذ، وتضمنت مراجعة الكتب المدرسية والنظام البيداغوجي وطرق التعليم وترتيب المواد التعليمية. وأثارت اللجنة جدلاً في البلاد، مع انحيازها إلى إصلاح يقصي اللغة العربية والتربية الإسلامية والتاريخ لصالح اللغة الفرنسية والمواد العلمية. وفي فترة لاحقة، خلال عام 2012 ثم 2016، كان التركيز خلال الاصلاحات على الجوانب البيداغوجية والمناهج، وسط تجاهل للمعلّم.
خلال هذه الفترة، نجحت النقابات المستقلة في السيطرة على قطاع التعليم، وسحبت التمثيل النقابي من الاتحاد العام للعمال الجزائريين، النقابة المركزية للعمال الموالية للسلطة، والتي لم تكن قادرة على التكفل بنقل مطالب المعلمين والأساتذة والتفاوض مع السلطة. وبدأت النقابات تزداد في الجزائر، خصوصاً بعد إنشاء نقابة المجلس الوطني لأساتذة التعليم العالي. كما أدى انشقاق بعض النقابات إلى ولادة نقابات جديدة. وأنشأت نقابات فرعية تمثل عمال المؤسسات التعليمية، ومدراء المدارس، ومعلمي المرحلة الابتدائية، وأساتذة التعليم المتوسط، وأساتذة الثانويات. ولم يغب الطابع السياسي عن الكثير من النقابات التي كانت على صلة بقوى سياسية محلية.
خاضت هذه النقابات صراعاً مريراً مع الحكومات المتعاقبة. يقول الأستاذ والنقابي عبد القادر صادوق إنّ كل الحركات الاحتجاجية والإضرابات في قطاع التعليم، هي نتيجة طبيعية لتعطّل المنظومة التربوية بشكل عام، وتعد جزءاً من تحوّلات اجتماعية أهدرت مكانة المعلّم في المجتمع، بالإضافة إلى عوامل أخرى. ويوضح في حديثه لـ "العربي الجديد"، أن "فشل الإصلاحات التربوية التي تم تنفيذها منذ عقود سببه عدم التركيز على عمق المشكلة، وهي المعلم. للأسف، لم تأخذ هذه الإصلاحات بعين الاعتبار ضرورة الاهتمام بالمعلم، لناحية التكوين والتأهيل الجيد أولاً، والوضع الاجتماعي والمهني ثانياً، وزيادة الرواتب بما يحفظ كرامته وموقعه في المجتمع كما في السابق ثالثاً، وذلك من خلال توفير الأدوات والظروف الجيدة للمعلم وتسوية المشاكل التي يعاني منها". يضيف: "لا يعقل أن نطلب من معلم يتقاضى راتباً يعادل أقل من 300 دولار، ويعيش في ظلّ الغلاء وتردي الأوضاع المعيشية، أن يقدم تعليماً جيداً".
وأدى هذا التجاهل إلى تراكم المشاكل في القطاع التربوي. وتتكرّر مطالب المعلمين والأساتذة في كل مرة. وتتضمن لائحة المطالب المطروحة حالياً ضرورة تحسين القدرة الشرائية عبر مراجعة الأجور بما يحقق العدالة الاجتماعية ويحمي كرامة الأساتذة وقدراتهم الشرائية، وإعادة النظر في نظام المنح والتعويضات بما فيها تلك المتعلقة بالامتحانات الرسمية، والإسراع بمراجعة القانون الخاص بالأستاذ والمعلم.
ويطالب المعلمون باسترجاع الحق في التقاعد المسبق، الذي يسمح للأساتذة بطلب التقاعد من دون اشتراط بلوغهم فترة خدمة محددة بـ 32 عاماً، خصوصاً وأن عدداً منهم يعانون مشاكل صحية نتيجة الإرهاق الناتج عن المتاعب الجديدة للتعليم وصعوبات التعامل مع الجيل الجديد من التلاميذ. ومؤخراً، أعلنت الحكومة على لسان وزير العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي الهاشمي جعبوب، رفضها القاطع العودة إلى نظام التقاعد السابق، وقالت إن ذلك غير ممكن في الوقت الحالي. كما يطالب الأساتذة بمراجعة عدد الحصص المسندة إليهم وتقليلها، وفتح مناصب توظيف أساتذة جدد من خريجي الجامعات لتخفيف الضغط على المعلمين، والتعجيل بتوظيف خريجي المدارس العليا، والإسراع في دفع رواتب الأساتذة المتعاقدين ودمجهم.
في هذا السياق، يبرز مطلب جديد لم يسبق أن طرحته نقابات المعلمين، وهو فصل المدارس عن البلديات وإلحاقها بوزارة التربية الوطنية، علماً أن المدارس كمنشأة عمرانية تتبع وزارة الداخلية التي تكلف البلديات بتسييرها وحراستها وصيانتها ودعم المطاعم المدرسية فيها، فيما يتبع الشق التعليمي وزارة التربية الوطنية من خلال المدراء والفرق التربوية في كل مدرسة. وغالباً ما يتسبب هذا التداخل في مشاكل جدية للعملية التربوية، إذ إن الكثير من البلديات، لا تؤدي مهام صيانة المدارس وتموين مطاعمها المدرسية بسبب عجزها المالي، الأمر الذي يسبب مشاكل للكادر التربوي والتلاميذ.
وعلى الرغم من أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون كان قد كلف وزير التربية الوطنية محمد أجاووط بفتح حوار مع النقابات التربوية والشركاء في القطاع بهدف تحسين الأوضاع المهنية والاجتماعية للعاملين، وإعادة النظر في القانون الخاص بالأساتذة، الا أن المؤشرات الراهنة وطبيعة العلاقة المتشنجة أصلاً ببين النقابات والوزارة لا تبعث على الارتياح، ولا تبشر بنجاح الحكومة في إقناع النقابات بوقف إضرابها. من جهة أخرى، فإن المسافة بين المطالب التي يرفعها المعلمون والأساتذة، وبين ما تعرضه الحكومة من استجابة ما زالت كبيرة. وفشلت جولة الحوار الأولى بين النقابات ووزارة التربية، بسبب ما وصفته غياب الجدية لدى الحكومة، وانسحبت بعض النقابات من جلسة الحوار. ويقول رئيس الاتحاد الوطني لعمال التربية والتكوين صادق دزيري، لـ "العربي الجديد": "يتعين على الحكومة التجاوب مع مطالب نقابات المعلمين بجدية أكبر، ومن خلال الالتزام بأجندة زمنية واضحة لتحقيق المطالب، بما يكرس استقرار القطاع ويساهم في إبعاد المؤسسات التعليمية عن أية توترات محتملة". تصريح يشير إلى جدية النقابات في التمسك بالإضراب المقرر في التاسع من مايو/ أيار الجاري في حال كانت يد الوزارة فارغة.
في هذا السياق، يبرز سؤال حول سلسلة طويلة من الحركات الاحتجاجية التي نفذها المعلمون خلال العقدين الماضيين، من دون تحقيق حلول جدية، إذ لا تمر سنة دراسية في الجزائر من دون إضرابات، وقد بلغ أوجها عام 2018. في ذلك العام، كان هناك خوف من سنة بيضاء بسبب تعطل الدراسة ورفض المعلمين العودة إلى التدريس لفترة تجاوزت الثلاثة أشهر. ويقول الخبير التربوي عبد القادر بودرامة، إن النقابات جزء من أزمة النظام التعليمي والمنظومة التربوية بشكل عام، بعدما وقعت في فخ المطالب الظرفية، وتكاثرها بشكل وفر في المقابل فرصة للسلطة للمبادرة والمناورة. ويشير إلى أن "نقابات قطاع التعليم تعد جزءاً من الأزمة، وقد نجحت السلطة في التفريق بين أسلاك القطاع وجعلها تضرب بعضها بعضاً، وتحويل الأهداف من خلال تصوير بعض المطالب البسيطة كإنجازات، لصرف أنظار الأساتذة والمعلمين عن المطالب المركزية".
يضيف لـ"العربي الجديد" أن المتابع لمسار المطالب النقابية سيجد أنها "تمحورت في الفترة الأخيرة حول نظام التعويض والنقاط الاستدلالية، بدلاً من القانون الخاص الذي هو أصل المشكلة. ولم يكن هناك أي تركيز على مطلب مراجعة التصنيف الذي يحدد الأجر القاعدي (الحد الأدنى للأجور)".
يضيف أن "مشكلة النقابات تكمن في عدم قدرتها على التفاوض، وخصوصاً أن هناك مجموعة كبيرة من المطالب، وهذا يعطي الحكومة فرصة للتلاعب بالأساتذة والمعلمين، لتلجأ السلطة إلى القبول بأبسط المطالب. في المقابل، لو أن النقابات تمسكت طيلة هذه السنوات بمطلب واحد وهو مراجعة القانون الخاص وتصحيح اختلالاته، لما وجدت السلطة فرصة للمناورة".