لكلّ بيئة نظامها الغذائي المرتبط بمواردها الطبيعية، وبحاجة المجتمعات وإمكانياتها المادية، وتجاربها وخبراتها المحلية، الأمر الذي يشكل عبر التاريخ حضارة الأمة المعنية، وربما هويتها الثقافية.
الجمع بين النقيضين هذا "حلو مُرّ" توفر في مشروب سوداني يحمل اسماً آخر تعارف عليه أهل الشمال "آبري". وفي اللغة النوبية نجد "آب" بمعنى الماء، و"ري" وتنطق كأنها "ريه" وتعني الإرواء، أي أنه المشروب الذي يزيل العطش ويروي، ويزيد استخدامه في رمضان حتى أصبح سيداً للمائدة الرمضانية لدى السودانيين في كل مكان. وتنشغل الأسر بإعداده عبر طقوس غنية بالمعارف والحرفية العالية في الممارسة، مثلما تنشغل بعدها بضرورة توصيله إلى المهاجرين أينما كانوا.
يتداول الناس حكاية اكتشافه غير الموثقة، والتي تقول إن امرأة من نواحي بربر في شمال السودان لاحظت أن تسرباً لمياه المطر تسبب في إنبات الذرة المخزونة في جوال من الخيش، فقامت بطحنها، وصنعت منها كسرة خبز ذات طعم مغاير، ثم بدأت تضيف إليها التوابل ليجمع الطعم بين الحلاوة والمرارة، وانتشرت التجربة، حتى أصبحت جودة المنتج مؤشراً لإجادة مراحل التصنيع المعقّدة، والتي تبدأ بـ "تزريع الذرة"، وبالأخص "الفيتريتة"، بوضعها على قطعة خيش مفروشة على الرمل، ورشها لأيام حتى تبدأ الإنبات، ثم يتم تجفيفها وطحنها وتخميرها بإضافة مقادير محددة من التوابل كالزنجبيل والقرفة والحبهان والكزبرة والغورنجال والكركدي والحرجل والبلح ومواد أخرى بحسب الرغبة، والأوضاع الصحية لأفراد الأسرة.
بعد الانتهاء من عملية خلط هذه المواد مع بعضها البعض، وعجنها في مرحلة (الكوجين)، تبدأ عملية تحويل العجينة إلى رقائق على صاج معدني فوق نار ساخنة، ثم تطبق وتجفف لتصبح صالحة للتناول بعد نقعها في الماء لساعات قبل تصفية العصير، وتحليته ليشرب بارداً. وفي كل هذه المراحل، تتشارك الجارات العمل في تناغم فريد، متنقلات من بيت إلى آخر، إذ تنتج كل أسرة ما يكفيها في بيتها.
ويقول أستاذ العلوم في جامعة الخرطوم محمد عبد الله الريح، إنّ "الحلو مر يعكس جانباً من حضارات السودان القديم، التي تعتبر من أوائل الحضارات التي أنتجت الغذاء المجفف. وتشير عبقرية صناعته إلى الاستفادة من خصائص مرحلة الإنبات لحظة التحول إلى سكريات، ليتم تجفيف الذرة النابتة على تلك الوضعية، وطحنها قبل اكتمال نموها".
اعتمد السودانيون على الأغذية المجففة، ومن بينها الـ "حلو مر" عند قطع المسافات الطويلة في رحلات التجارة والصيد والحج. ويؤكد الريح أن "قدرة المشروب على إطفاء الظمأ تعود إلى بطء امتصاصه. كما أنه يتمتع بإنتاج قدر أقل من الفضلات بالمقارنة مع غيره من المشروبات. الحلو مرّ يمتلك كل المقومات ليصبح مشروباً عالمياً بفضل مكوناته الطبيعية، ومذاقه المختلف، وقدرته على تحمُّل التخزين في أصعب الظروف، لكن كلفته العالية، وتعقيدات صناعته تحد من انتشاره، إلا في حال توفّر شركة منتجات غذائية "مبدعة".
(متخصص في شؤون البيئة)