يتزامن حلول الذكرى الـ73 للنكبة الفلسطينية، اليوم السبت، مع تحوّلات كبيرة أعادت القضية الوطنية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام العالمي والإقليمي، وهي تطورات لا تقل أهمية عن اندلاع الانتفاضة الأولى أواخر عام 1987، والتي مثّلت في حينه الحدث الأبرز على الصعيد الوطني الفلسطيني منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في 1967. وعند مقارنة الظروف التي تتزامن مع حلول ذكرى النكبة هذا العام، بتلك التي كانت سائدة عند حلولها العام الماضي، يتضح حجم التحوّلات على مسار القضية بشكل جلي وواضح. فقد أفشلت التطورات محاولات الاحتلال وبعض الأطراف الإقليمية لطمس هذه القضية بوصفها قضية شعب واقع تحت آخر احتلال على وجه الأرض. كما أسقطت أوهام الاحتلال بإخراج القضية الفلسطينية عن دائرة الاهتمام بعد اتفاقات التطبيع التي توصل إليها مع بعض الدول العربية.
ومثّلت هبة القدس المحتلة المستمرة، والتي تفجرت لمواجهة قرار إسرائيل طرد عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح وإغلاق مدرجات حي باب العامود، وتعاظم محاولات التشكيلات اليهودية المتطرفة المس بالمسجد الأقصى، الشرارة التي قادت إلى التحولات الأخرى. وهي تحولات شملت اندلاع المواجهة العسكرية القائمة بين فصائل المقاومة في غزة والاحتلال، وتفجر تظاهرات فلسطينيي الداخل، وامتداد التظاهرات إلى مناطق الضفة الغربية حيث تتولى السلطة الفلسطينية مقاليد الأمور. ولفتت هبّة القدس وما شملته من مظاهر مقاومة وتحدي أنظار العالم، إلى خطورة مشاريع الاستيطان والتهويد التي تهدف إلى تهويد الجغرافية والديمغرافية في المدينة المقدسة والضفة الغربية.
وسلطت الهبّة الأنظار على المشاريع التهويدية التي تنفذها الجمعيات الاستيطانية اليهودية بدعم ورعاية حكومة وبلدية الاحتلال، وإسناد من المنظمات اليهودية الأميركية، في سلوان، والبلدة القديمة من القدس وبقية الأحياء الفلسطينية في المدينة، فضلاً عن التركيز على المشاريع الهادفة إلى تهويد الفضاء الجغرافي المحيط بالقدس.
سلطت الهبّة الأنظار على المشاريع التهويدية التي تنفذها الجمعيات الاستيطانية
وتمثل المشاريع التهويدية الاستيطانية في القدس على خطورتها، صورة مصغرة لما تعكف إسرائيل على تنفيذه في بقية أرجاء الضفة الغربية عبر ثلاث آليات عمل واضحة، وهي بناء مستوطنات جديدة، وتوسيع مستوطنات قائمة، وغض الطرف عن قيام المنظمات اليهودية ببناء نقاط استيطانية من دون إذن الحكومة الإسرائيلية، وبعد ذلك يتم إضفاء الشرعية عليها. يتزامن ذلك مع غض الطرف عن اعتداءات المستوطنين التي تهدف إلى ضرب دافعية الفلسطينيين على البقاء في أرضهم، عبر السيطرة على الأرض، واجتثاث كروم الزيتون، وتسميم آبار المياه، وإطلاق قطعان من الخنازير البرية، تحديداً في وسط الضفة الغربية المحتلة وشمالها، لتعيث خراباً في الحقول، فضلاً عن مداهمة القرى والبلدات وتنفيذ عمليات تخريب، تشمل إحراق المساجد والكنائس.
وإذا كانت إسرائيل قد صنعت النكبة الفلسطينية في 1948 عبر الجهد الحربي والمجازر الوحشية، فإن النكبة تتواصل بعد 73 عاماً عبر وسائل أخرى، وتحديداً من خلال توظيف القضاء العنصري. فالقضاء الإسرائيلي أصدر قراره بإخلاء المنازل الفلسطينية في حي الشيخ جراح من مالكيها الذين يقطنونها منذ أكثر من 70 عاماً، بحجة أن الأرض التي بنيت عليها تعود ليهود. وهو نفس القضاء الذي يرفض أي دعوى لعودة المقدسيين إلى منازلهم وممتلكاتهم في القدس الغربية التي شردوا منها في حرب 1948. وهو القضاء نفسه، الذي يشرّع تدمير منازل الفلسطينيين والسيطرة على أراضيهم ويتساهل إلى حد التواطؤ مع جرائم المستوطنين، عبر غض الطرف عن اعتداءاتهم على الفلسطينيين، وإغلاق ملفات التحقيق معهم. وتتزامن ذكرى النكبة هذا العام مع بروز تحول خطير وكبير على الساحة الصهيونية، يتمثل في إضفاء شرعية على مشاركة الحركات والمنظمات الإرهابية في النظام السياسي الإسرائيلي، وهو ما لم يحدث من قبل.
فإسرائيل التي منعت في 1984 "الحركة الكهانية" بزعامة الحاخام مئير كهانا من التنافس في الانتخابات العامة بسبب توجهاتها الإرهابية ودعواتها الصريحة إلى طرد الفلسطينيين، هي إسرائيل التي سمحت في عام 2021 لـ"الحركة الكهانية" بقيادة إيتمار بن غفير، تلميذ كهانا ومقتفي أثره، بالتنافس في الانتخابات والحصول على تمثيل في الكنيست. ليس هذا فحسب، بل إن "الحركة الكهانية" باتت حليفاً لحزب "الليكود" الحاكم، الذي يقوده بنيامين نتنياهو وأوصت بتكليفه بتشكيل الحكومة.
تصدي فلسطينيي الداخل أشاع حالة من الفوضى في المدن الإسرائيلية
وللوقوف على خطورة هذا التحول، يمكن الإشارة إلى ما نقلته الصحافية دانا فايس من قناة "12"، مساء أول من أمس الخميس، عن مفتش عام الشرطة الإسرائيلية كوبي شفتاي، الذي حمّل المسؤولية لبن غفير بإشعال الأوضاع في القدس. واتهمه بالتحريض على شن الاعتداءات على الفلسطينيين في الشيخ جراح، وعبر تنفيذه اقتحامات للمدن المشتركة التي يعيش فيها فلسطينيو الداخل واليهود، على رأس المئات من عناصر منظمة "لاهافا" الإرهابية التي يترأسها زميله في قيادة "الحركة الكهانية" الحاخام بنتسي غوفشيتن، فضلاً عن تحريضه المباشر على قتل الفلسطينيين، من دون أن تتم مساءلته. لكن ما أقدمت عليه "الحركة الكهانية" لن يصب بالضرورة في مصلحة إسرائيل، فنشاط هذه الحركة الإرهابية أفضى إلى أحد أهم التحولات التي طرأت على مسار الصراع بين الشعب العربي الفلسطيني والكيان الصهيوني، وتمثّل في انضمام فلسطينيي الداخل إلى دائرة المواجهة مع إسرائيل.
وتنبع أهمية هذا التحوّل التاريخي في حقيقة أن الحديث يدور عن قطاع فلسطيني يعيش في احتكاك مباشر مع المستوطنين، في الجليل، والمثلث، والنقب، وفي المدن المختلطة. فتصدي فلسطينيي الداخل لاستفزازات واعتداءات "الحركة الكهانية" والمنظمات المتحالفة معها، وما يتخلله من فعل وردة فعل، أشاع حالة من الفوضى في المدن الإسرائيلية وتخومها، إذ تقرّب هذه الفوضى إسرائيل من فقدان السيطرة. ولم يكن مفاجئاً أن يصرح وزير الأمن الإسرائيلي بني غانتس أن ما تشهده المدن الإسرائيلية من مواجهات يفوق في خطورته كل مظاهر التهديد الخارجي، في حين حذر الرئيس الإسرائيلي رؤفين ريفلين من خطورة اندلاع حرب أهلية.
وما يفاقم الأمور تعقيداً بالنسبة للكيان الصهيوني بعد 73 عاماً على النكبة، أنه يغرق منذ ثلاث سنوات في أتون أزمة سياسية ومعضلة حكم لم يشهد لها مثيلاً، طفت على السطح بسبب مشاكل بنيوية تفجرت مرة واحدة. وتمثلت في تهاوي منظومة التوازنات التي تضمن استقرار النظام السياسي ونضب المعين القيادي، لدرجة أن يحطم نتنياهو رقم ديفيد بن غوريون القياسي في البقاء في الحكم، على الرغم من توجيه لوائح اتهام له في قضايا فساد خطيرة، تشمل: تلقي الرشوة، الاحتيال، وخيانة الأمانة، من دون أن تتمكن النخبة السياسية من طرح منافس وبديل عنه. فكل المؤشرات تدل على أن زعيم المعارضة يئير لبيد، الذي تم تكليفه بتشكيل الحكومة أخيراً، لن يتمكن من ذلك، مما يجعل إسرائيل أمام خيارين لا ثالث لهما: حكومة برئاسة نتنياهو مجدداً أو جولة انتخابات خامسة في أقل من ثلاثة أعوام.
ويُصادف مرور ذكرى النكبة في ظل الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة، والتي تمكنت المقاومة خلالها حتى الآن من تحقيق إنجازات كبيرة على الرغم من نتائجها المدمرة بسبب توسع جيش الاحتلال في استنفاد الطاقة الكامنة في تفوقه النوعي في استهداف البنى التحتية والمدنيين في القطاع. ففي هذه المواجهة غطت صواريخ المقاومة كل مناطق فلسطين التاريخية بعد أن وصلت إلى تخوم إيلات، في أقصى الجنوب، فضلاً عن المس برموز سيادية إسرائيل، لا سيما إخراج مطار بن غوريون المهم عن العمل وتوقف الكثير من شركات الطيران العالمية عن توجيه رحلات إلى إسرائيل حتى بعد أن تم نقل عمليات الهبوط والإقلاع إلى مطار رامون الصغير نسبيا في أقصى الجنوب، والذي أعلنت المقاومة استهدافه أيضاً بصاروخ جديد يصل مداه إلى 250 كيلومتراً.
كما طاولت صواريخ المقاومة للمرة الأولى مشاريع استراتيجية لإسرائيل، بعد أن أصابت خط أنابيب نفط إيلات ـ عسقلان، وهو الأنبوب الذي جاهرت إسرائيل بأنها تراهن على طرحه مستقبلاً كبديل عن قناة السويس؛ وذلك بعد أن توصلت إلى تفاهم مع الإمارات على نقل نفطها إلى أوروبا عبره.
إسرائيل أمام خيارين: إما تكليف نتنياهو أو انتخابات جديدة
كذلك، أدت هذه المواجهة إلى ضرب مستوى الشعور بالأمن لدى المستوطنين وقلصت ثقتهم بالقيادات السياسية والعسكرية. وما يدل على ذلك، هو نزوح مستوطني منطقة "غلاف غزة" عن منازلهم، وتوقف التعليم من عسقلان حتى حيفا، وتوقف الكثير من خطوط النقل العام، واضطرار صحافيين إسرائيليين لمقاطعة مؤتمرات المتحدث العسكري الإسرائيلي هيدي زيلبرمان بسبب ميله لتضليل الجمهور حول نتائج الحرب.
ولإيضاح حقيقة ما يجري خلال هذه المواجهة يمكن المقارنة فقط بين ردة فعل المقاومة في غزة وبين مئات الغارات التي تنفذها إسرائيل في قلب سورية، والعراق، وعملياتها السرية في قلب إيران، والتي لم تواجه في الغالب برد.
ودل تفجر هبة القدس وانخراط فلسطينيي الداخل في مواجهة المحتل، وجولة القتال الحالية بين المقاومة في غزة وإسرائيل، ومظاهر تحرك شعبي في الضفة الغربية ضد الاحتلال، على أن البرنامج السياسي الذي تتبناه قيادة السلطة الفلسطينية بات غير ذي صلة ولا يحظى بدعم الفلسطينيين وثقتهم.
في الوقت ذاته، فإن اشتعال المقاومة ضد الاحتلال في كل مناطق الفلسطينيين ضمن حدود فلسطين التاريخية، وما أعقبه من إسناد جماهيري عربي، إسلامي وأممي. كما عكس ذلك نشاط التضامن الواسعة في العالمين العربي والإسلامي وفي أرجاء العالم، دل على زيف رهانات إسرائيل على دور اتفاقات التطبيع التي توصلت إليها مع بعض الدول العربية في إخراج القضية الفلسطينية عن دائرة الاهتمام العربي والإسلامي والدولي.
كما حاصرت تحولات الساحة الفلسطينية الأخيرة الخطاب الذي تبنته نخب مرتبطة تحديدا بنظم الحكم العربية التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، ووصل إلى حد عدم التردد في إسناد إسرائيل ومهاجمة فلسطين وقضيتها. فأصحاب هذا الخطاب باتوا حالياً في حالة دفاع عن النفس في ظل زخم التعاطف والالتفات الكبير حول فلسطين وقضيتها.