لحظات صعبة، عاشها البارحة الزعيم البريطاني السابق بوريس جونسون في مواجهة لجنة الامتيازات المكلّفة بالتحقيق في قضية "حفلات داونينغ ستريت"، وما إذا كان قد "ضلّل" البرلمان عمداً.
وللمرة الأولى ربما خلال مسيرته السياسية، يحرص جونسون على الحضور بمظهر "متأنق" وبشعر "مرتّب" قدر الإمكان، لكنها لحظة "تأنّق" عابثة أمام سيل من الأدلّة التي حضّرتها اللجنة وعرضتها على الهواء مباشرة أمام ملايين المتفرّجين.
وأول تلك الأدلة تم اقتباسها من أقوال جونسون نفسه خلال بعض جلسات المساءلة التي تعقد كل أربعاء حيث "كذّب" بشأن حضوره لتلك التجمّعات، وحيث قال إن حضوره لا "يخرق القواعد".
وللمرة الأولى أيضاً، يجد جونسون نفسه محاصراً وغير قادر على الهرب من القاعة الصغيرة أو التهرّب من الأسئلة والإدانات. سبق لجونسون أن اعتذر مراراً وتكراراً بداية العام الماضي عن خرقه للقواعد التي فرضها هو بنفسه على البريطانيين حين طالبهم بالتزام منازلهم بقوة القانون تجنّباً لتفشي كوفيد-19، والحفاظ على مسافة مترين في أماكن العمل والتسوّق، وارتداء الكمامات.
للمرة الأولى أيضاً، يجد جونسون نفسه محاصراً وغير قادر على الهرب من القاعة الصغيرة أو التهرّب من الأسئلة والإدانات
إلا أن مسافة الأمان تقلّصت البارحة في القاعة الضيّقة وتضاءلت أهميتها من مترين إلى متر واحد، عندما عرضت اللجنة صوراً لجونسون محتفلاً في إحدى غرف "داونينغ ستريت" الصغيرة مع حشد من فريقه، لا تفصل بينهم سوى بضعة سنتيمترات، ولا تغطي وجوههم أي وسيلة وقاية. فما كان من الزعيم السابق إلا أن اخترع دلائل خفيّة لا يمكن للجنة أن تراها بالعين المجرّدة، قائلاً إنهم اعتمدوا خلال تلك التجمّعات على وسائل حماية غير مرئية كالمعقّمات والمطهّرات و"جهود حثيثة" للحدّ من الانتشار.
وتبقى تلك "الجهود" غير مرئية بالنسبة للجنة، وبالنسبة لملايين المشاهدين ممن عاشوا لأكثر من سنة لحظات رعب خوفاً من أن يخرقوا القانون.
ومع أن جونسون قدّم للجنة الامتيازات ملفاً من 50 صفحة أعدّه بدقة مع فريقه القانوني، فإن كل الحجج التي قدّمها غير مقنعة وتنطوي على مهمّة إقناع الآخرين بما يصعب الاقتناع به.
بالعودة إلى القواعد التي هندسها مع فريق عمله قبل ثلاث سنوات، يقول جونسون: "منذ هذه اللحظة، أطالبكم بالبقاء في منازلكم للحدّ من انتشار الوباء. تستطيعون الخروج فقط للقيام بما هو ضروري وبالحدّ الأدنى كالتبضّع وممارسة نوع واحد من الرياضة يومياً والتماس مساعدة طبية ملحّة والذهاب إلى العمل إن كان العمل من المنزل مستحيلاً. لقاء الأصدقاء ممنوع".
انطلاقاً من هذه القواعد الصارمة، اعتبر جونسون أن "تجمّعات داونينغ ستريت" كانت في إطار العمل، وأنه كان ملزماً بعقد الاجتماعات مع فريقه بشكل منتظم. إلا أن هذه الحجة سقطت قبل أن ينتهي من نطقها حتى، لأن زوجته كانت حاضرة في مايو/ أيار 2020 للاحتفال بعيد ميلاده، برفقة طفلهما وبرفقة صديقتها مصمّمة الديكور لولو ليتل. أما الحجّة المتعلقة بأن كبار مسؤولي "داونينغ ستريت" لم يقدّموا له أي نصيحة بشأن خرقه للقانون عبر تلك التجمّعات، فبدت حجة واهية مع تكتّم جونسون على هوياتهم بذريعة "الحفاظ على الخصوصية".
وكانت كيفية تعاطي جونسون مع تقرير كبيرة موظفي الخدمة المدنية سو غراي، والذي نُشر في مايو الماضي لافتة، فبعدما أمضى الأسبوع الماضي وهو ينتقد عمل اللجنة متهماً أعضاءها بعدم النزاهة وبالاستناد إلى الأدلة الواردة في تقرير سو غراي، راح ينتقي البارحة ما يحلو له من التقرير ليدعم دفاعه. أشار إلى ما قالته في تقريرها من أن "تلك الأحداث التي شهدها مقرّ رئيس الوزراء لا ترقى إلى الجرم"، وأن عدد الحاضرين كان يتراوح بين 15 و20 شخصاً في حين أن الاتهامات أكّدت حضور أكثر من 20 شخصاً.
لم يستند جونسون إلى تقرير سو غراي، إلا بعدما أكّدت اللجنة أن تحقيقاتها لم ترتكز على ما ورد في التقرير
ولم يستند جونسون إلى تقرير سو غراي، إلا بعدما أكّدت اللجنة أن تحقيقاتها لم ترتكز على ما ورد في التقرير، وأن الدلائل التي في حوزتها تستند إلى مقابلات ورسائل "واتساب".
ولم يكن يوم البارحة يوماً عادياً بالنسبة للحكومة البريطانية ونواب "حزب المحافظين". إذ شهد مجلس العموم إلى جانب جلسة المساءلة التي خضع لها جونسون، جلسة أخرى مهمّة للتصويت على "وثيقة وندسور". ومع أن الوثيقة حصدت أغلبية الأصوات، فإن رئيس الحكومة ريشي سوناك لم يتجاوز مرحلة الخطر بعد نظراً لتمسّك الحزب الاتحادي الديمقراطي بموقفه المعارض للوثيقة، وبالتالي رفضه العودة إلى تقاسم السلطة التنفيذية في أيرلندا الشمالية.
ولم ينجُ سوناك البارحة أيضاً من تلميحات جونسون، الذي لا يوفّر مناسبة إلا ويحاول توريط "خصمه" في فضائح حكومة المحافظين. ردّاً على ادّعاءات اللجنة بأنه خرق القواعد من موقعه كرئيس للحكومة، مع معرفته بأن سلوكه هو خرق للقواعد.
وقال جونسون في هذا السياق: "إن لم يكن واضحاً بالنسبة لي أن هذه التجمعات تتعارض مع التوجيهات والقواعد، فلا بدّ أنها كانت واضحة للآخرين، بمن فيهم كبار المسؤولين في الحكومة، بمن فيهم رئيس الوزراء الحالي". يُذكر أن سوناك، الذي كان وزيراً للمالية ذلك الحين، كان من أقرب الحلفاء بالنسبة إلى جونسون، وكان حاضراً في معظم تلك التجمعات، كما أنه تلقّى غرامة من الشرطة إلى جانب جونسون وزوجته وآخرين.
من المستبعد أن تكون جلسة البارحة الممتدة على أربع ساعات، قد غيّرت الحكم المبدئي الذي أطلقته لجنة الامتيازات قبل أسبوعين، مؤكدة أن جونسون ضلّل البرلمان أكثر من مرة خلال العامين الماضيين. وأقصى ما يطمح إليه جونسون وحلفاؤه اليوم، هو ألا تصل التهم الموجّهة له إلى حدّ تعليق عضويته البرلمانية، بما يوفّر الفرصة لإجراء انتخابات فرعية مبكّرة في منطقته ويضاعف الانقسامات في صفوف "حزب المحافظين".