"الانكفاء الاستراتيجي".. خيار أوباما لقيادة العالم

09 فبراير 2015
قدمت سوزان رايس ملخص استراتيجية أوباما (جيم واطسون/فرانس برس)
+ الخط -

في عام 1986، أصدر الكونغرس الأميركي قانوناً يفرض على كل رئيس أميركي أن يقدّم كل عام للكونغرس تقريراً مكتوباً عن استراتيجيته لحماية الأمن القومي.

وكان الرئيس الجمهوري، رونالد ريغان، أول من التزم بذلك وقدم استراتيجيته الأولى في العام التالي لصدور القانون مباشرة، أي في 1987. وكانت أهم العناوين التي اختارها ريغان في ذلك التاريخ هي "الحرية والسلام والازدهار لنا ولأصدقائنا ولكل المكافحين في العالم من أجل الديمقراطية". وفي العام الأخير لرئاسة ريغان، التزم الأخير بتقديم استراتيجية لآخر عام له في السلطة، وركز على موضوع التحرر العالمي من الأنظمة الشمولية، في وقت كان فيه الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي قد بدأ يتحرر أو يتحلل.
وبعد انتهاء رئاسة ريغان كان خلفه الجمهوري، جورج بوش الأب، أول رئيس أميركي يخالف القانون المتعلق باستراتيجية الأمن القومي، إذ تجاهل تقديم استراتيجية مكتوبة للكونغرس في العام الأول من رئاسته 1989، ثم قدم استراتيجيتين مكتوبتين في عامي 1990 و1991، مبشراً بنظام دولي جديد تحت قيادة الولايات المتحدة، وقدم نموذجاً عملياً لذلك النظام في حرب أميركا الأولى على نظام صدام حسين. وعاد بوش الأب لتجاهل تقديم الاستراتيجية في عامه الرابع والأخير 1992 من فترة رئاسته الوحيدة.
وخلال رئاسة بيل كلينتون، قدم الرئيس الديمقراطي ثماني استراتيجيات، قافزاً على عام 1999 من دون تقديم أي شيء، ومقدماً بدلاً عن ذلك في الشهر الأخير من رئاسته استراتيجية إضافية لعام 2001، اعتمد عليها خلفه جورج بوش الابن في أول عام من رئاسته في الشهور التي سبقت هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ولم يقدم جورج بوش طوال فترتي رئاسته تقريراً عن الاستراتيجية المنصوص عليها قانوناً سوى مرتين، الأولى في 2002 رسمتها الأدخنة المتصاعدة من برجي مركز التجارة العالمي بعد شهور قليلة من هجمات سبتمبر، والثانية لم تختلف كثيراً عن الأولى، قدمها في 2006.

استراتيجية أوباما

عند مجيء الرئيس الحالي، باراك أوباما، قدم في عام 2010 استراتيجية طموحة لحماية الأمن القومي الأميركي، مؤلفة من 59 صفحة، سرعان ما تضاءلت إلى 29 صفحة في 2015. وظل أوباما يعمل بلا استراتيجية معلنة للأمن القومي في الأعوام 2011 و2012، و2013 و2014.
ويبدو أن تمدد خطر تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في أراض شاسعة من سورية والعراق أجبر أوباما على إيقاف تجاهله للقانون الخاص بتقديم استراتيجية سنوية للأمن القومي، لكن الاستراتيجية المقدمة يجب أن تكون شاملة ولا تتعلق بخطر محدد أو بقعة جغرافية معينة.

وفي تقرير استراتيجية أوباما التي أعلنت يوم الجمعة الماضي، تناقض الهدف فيها عن الوسيلة، إذ إن الهدف المحدد هو الحفاظ على قيادة الولايات المتحدة للعالم في كل المجالات. ولكن الاستراتيجية لتحقيق هذا الهدف قائمة بالدرجة الأولى على الانكفاء، والحذر الشديد تجاه إرسال الجيوش الأميركية إلى بؤر التوتر الساخنة في العالم، مفضلاً التعامل مع التحديات عن طريق إقامة التحالفات الدولية. والتحلي "بصبر استراتيجي وإصرار"، والبعد عن اللجوء للقوة العسكرية، لافتاً إلى أن خزائن الولايات المتحدة ليست ذات موارد مفتوحة تكفي لحل كل المشكلات الدولية.

وتحدد استراتيجية أوباما لعام 2015 (المرجح كذلك أن يسير على هديها في عامه الأخير من رئاسته الثانية 2016) الخطوط العريضة لأولويات أوباما في السياسة الخارجية. ورتب أوباما التحديات الأكثر إلحاحاً، بادئاً بالإرهاب، أو ما يسميه بالتطرف العنيف، ثم الخطر الروسي، وهجمات الانترنت، والتغير المناخي.

وحسب ملخص الاستراتيجية، التي قدمتها مستشارة الرئيس أوباما لشؤون الأمن القومي، سوزان رايس، فإن الحرب على الإرهاب سوف تعتمد في بعض جوانبها على مواجهة الفكر المتطرف المولد للعنف. لكن الاستراتيجية لا توضح كيفية القيام بذلك، بل تسترسل في سرد مقولات فضفاضة غير محددة للتدليل على أن مواجهة التطرف والإرهاب لا يكون فقط بالقوة العسكرية أو المواجهات الميدانية. ويعتقد أوباما أن تجفيف منابع التطرف لا يقل أهمية من أجل النجاح في الحرب ضد المتطرفين. وأكدت الاستراتيجية كذلك أهمية التحالف الدولي لإضعاف وهزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية".

وفي كيفية التعامل مع الخطر الروسي، الثاني من حيث الأهمية، فإن الاستراتيجية تعتمد على عزل روسيا، بسبب دعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا. وهي استراتيجية عكسية لما اختطه ريغان في التعامل مع الاتحاد السوفييتي في أواخر سنوات الحرب الباردة، إذ لجأ يومها إلى سياسة الانفتاح والاختراق بدلاً من الانغلاق والانكفاء.

البعيد ثم القريب

يلاحظ أن استراتيجية أوباما للعام 2015 قائمة على نظرته السياسية التي يجاهر بها منذ حملته الانتخابية الأولى للرئاسة، وهي إيلاء آسيا الاهتمام الأكبر، بدلاً عن الشرق الأوسط ثم أوروبا قبل العالم العربي، بل إن الاستراتيجية رتبت الأولويات جغرافياً جزئياً؛ بدءاً بالبعيد ثم الأقل بعداً فالأقرب، وصولاً للجار القريب في أميركا الجنوبية. ووفقاً لذلك، فإن مناطق العالم مرتبة جغرافياً حسب أهميتها في استراتيجية أوباما فيما يتعلق بالنظام الدولي، بدءاً بتقوية الروابط مع دول آسيا والمحيط الهادي، ثم تعزيز دفاعات الحلفاء في أوروبا. وبعد ذلك تأتي في الدرجة الثالثة محاولة تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (حسب المصطلح الأميركي للمنطقة العربية)، ثم يأتي الاستثمار في مستقبل أفريقيا في الترتيب الرابع، وأخيراً تعميق روابط التعاون الاقتصادي والأمني مع دول الأميركتين. أما أولى الأولويات في الاستراتيجية، فهي حماية الأمن الداخلي الأميركي.

واعتبرت الاستراتيجية الجديدة تلخيصاً وتحديثاً لاستراتيجية أوباما في 2010 التي تخلى فيها أوباما عن مصطلحات بوش المتعلقة بالحرب على الإرهاب، والحرب الاستباقية، والتحرك المنفرد. ولجأ الرئيس الأميركي إلى مصطلحات مناقضة قائمة على عقيدة مختلفة تماما لعقيدة بوش الصدامية.

لكن الأمر الأكثر أهمية الذي يربط بين الاستراتيجيات الرئاسية للأمن القومي الأميركي الذي قدمها الرؤساء الأميركيون، وعددها حتى الآن 16 استراتيجية، هو وجود أجزاء سرية ربما أنها هي الأهم من البنود المعلنة. وينص القانون الخاص بالاستراتيجية على أن يتألف المحتوى من جزأين؛ الأول علني، والثاني سرّي يناقش خلف الأبواب المغلقة، وربما أن وجود الأجزاء السرية يمكن أن يفسر التناقض القائم بين بعض الممارسات العملية مع ما هو معلن من سياسات واستراتيجيات.