مسودة تعديل دستور الجزائر [1/5]: تبخر فرص النظام البرلماني ورئيس بدون قيود

11 مايو 2020
لم ترق التعديلات الدستورية لطموحات ثورة فبراير (العربي الجديد)
+ الخط -
في السابع من إبريل/نيسان الماضي، أعلن القاضي السابق في المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان في جنيف، فتساح أوقرقوز، استقالته من اللجنة الدستورية الجزائرية، بسبب تحفظاته على التعديلات المقترحة، والتي وصفها بأنها استمرار للدستور الحالي الذي صاغه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. وكشف أوقرقوز في رسالة الاستقالة أنّ اللجنة "لم تقم بمراجعة عميقة للدستور لبناء جمهورية جديدة". لكن هذه الاستقالة مرت بشكل عابر ولم تلفت انتباه المجتمع السياسي والرأي العام بسبب أزمة كورونا، غير أنها بالنسبة لكثيرين، كانت مقدمة تعطي صورة مسبقة عن المخرجات التي ستعلن عنها اللجنة الدستورية، ولا سيما لناحية عدم توقّع سقف عالٍ من التغيير في طبيعة النظام السياسي القائم في البلاد منذ عقود.

ووضعت هذه الاستقالة حينها، على المحك، تعهدات سابقة كان أعلنها الرئيس عبد المجيد تبون خلال حملته الانتخابية وفي حواراته الصحافية الأولى بعد تسلمه السلطة، وتقضي باعتماد نظام سياسي جديد يقيّد سلطات الرئيس، من خلال صياغة دستور جديد يوازن بين النظام الرئاسي الذي حكم البلاد منذ الاستقلال عام 1962، وبين النظام البرلماني، ويصون البلاد من كل أشكال الانفراد بالسلطة، ويعزز الديمقراطية القائمة على التعددية السياسية، ويعيد الاعتبار للبرلمان. وكانت جميع هذه التعهدات تعطي مؤشرات على إمكانية التوجه نحو نظام برلماني أو نظام قريب منه، يمنح الحزب أو التحالف الفائز بالأغلبية في الانتخابات النيابية حق تشكيل الحكومة وتنفيذ البرنامج الذي انتخب على أساسه.

لكن ظهر، بعد الكشف عن مسودة تعديل الدستور قبل أيام، والتي يفترض أن يتم اقرارها في استفتاء عام خلال الشهرين المقبلين، أنّ التطلعات السياسية والشعبية نحو تغيير طبيعة النظام القائم، والتوجه نحو نظام برلماني يعطي للتمثيلية الشعبية حقّ تشكيل الحكومة وتنفيذ السياسات وفقاً للبرامج المعلنة في الانتخابات، تبخرت إلى حين.

وأبقت التعديلات الدستورية على النظام الرئاسي المعدّل كنظام حكم في الجزائر واستبعدت خيار النظام البرلماني، على الرغم من تجارب قاسية عانت منها الجزائر بسبب نظام الحكم الرئاسي والتي قادت البلاد في محطات متعددة إلى حالات انسداد سياسي، وإخفاقات اقتصادية واجتماعية أفضت إلى انتفاضتي أكتوبر/تشرين الأول 1988 وفبراير/شباط 2019. كما حافظت التعديلات الدستورية الجديدة على الصلاحيات الواسعة للرئيس بما فيها حق تعيين رئيس الوزراء، ورفضت اللجنة الدستورية وضع قيود جديدة على صلاحيات الرئيس.

وكانت الأحزاب في الجزائر، ولفترة طويلة، قد رفعت مطلب إقامة نظام برلماني وإنهاء تجربة النظام الرئاسي الذي امتد لستة عقود، وأفرز تجارب متعددة في الانفراد بالحكم، خصوصاً في العقدين الماضيين من حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي استغل النظام الرئاسي للانحراف بالبلاد إلى نظام حكم فردي نتجت عنه مظاهر طاغية من الفساد السياسي وهيمنة مجموعات غير دستورية على صناعة القرار، والكارتل المالي على مقدرات البلاد. كل ذلك في مقابل إفراغ البرلمان والسلطة القضائية من أي صلاحيات حقيقية لوقف هذا الانهيار، وكان هذا الواقع الدافع الأبرز للثورة الشعبية في فبراير 2019.

ومع اندلاع الحراك الشعبي، برزت مطالبات شعبية واسعة بتغيير النظام الرئاسي والتوجه إلى نظام برلماني أو معدل، يعطي الفرصة للقوى السياسية الممثلة للشعب بناءً على الانتخابات النيابية، حقّ تشكيل الحكومة وتنفيذ برنامجها، كما هو الحال في أغلب دول العالم، وكذا إعادة توزيع الصلاحيات بين الرئاسة والبرلمان والحكومة، وتقييد صلاحيات الرئيس لمنع الانحراف إلى الحكم الفردي. وقد شجّع نجاح تجربة تونس، كدولة جارة، في إقامة نظام برلماني، على ذلك.

وتزامنت هذه التطلعات والطموحات الشعبية مع مطالبات بصياغة دستور جديد عبر مجلس تأسيسي منتخب، بدلاً من تجارب اللجان الدستورية التي يعينها الرئيس، والتي كانت تُنتج في كل مرحلة نصاً دستورياً ظرفياً لا يحلّ جوهر الأزمة السياسية في الجزائر، ويبقي هيمنة مجموعة في السلطة على صناعة القرارات وتحديد الخيارات الاستراتيجية، ويمنع أي فرصة لانتقال السلطة إلى مجموعات سياسية تحظى بالرصيد الشعبي.

لكن السلطة السياسية التي فرضت خيار الانتخابات الرئاسية الماضية، انفردت أيضاً بتشكيل اللجنة الدستورية، ووضعت أمامها خطوطاً حمراء، وكان واضحاً أنّ مخرجات التعديلات الدستورية ستكون بسقف أدنى من التطلعات السياسية والشعبية، إذ استبعدت اللجنة الدستورية بالكامل خيار النظام البرلماني، واعتبرت في تقريرها النهائي أنّ هذا النوع من النظام السياسي "لا يشكل بديلاً حقيقياً بالنظر إلى السوسيولوجيا السياسية للجزائر". بل إنها رفضت الخوض في الخيار بين النظام الرئاسي أو النظام البرلماني، وقرّرت "اعتماد نظام شبه رئاسي يبقي على الشكل الحالي للحكم لضمان وحدة السلطة التنفيذية وتحرير رئيس الجمهورية من أعباء التسيير الحكومي مع المحافظة خاصة على شرعيته التي يستمدها من الانتخاب". كما رفضت، على غرار الدساتير السابقة، تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية وشددت على أنّ "تقييد سلطات الأخير من خلال اعتماد نظام رئيس الحكومة ببرنامج خاص، وإعادة توزيع سلطة التعيين بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، وإلغاء الثلث الرئاسي لمجلس الأمة، وإلغاء سلطة رئيس الجمهورية للتشريع بالأوامر، سيؤدي إلى تغيّر طبيعة النظام السياسي".

كذلك برّرت اللجنة رفضها النظام البرلماني الذي يتيح للحزب أو الأغلبية الفائزة في البرلمان حقّ اقتراح رئيس للحكومة وتشكيلها، بأنه سيعيد تجربة سابقة "لازدواجية السلطة التنفيذية بوجود رئيس حكومة كقطب ثانٍ للحكم". لكنها أبقت لرئيس الجمهورية هامشاً بصيغة "الممكن" و"الاستشارة غير الملزمة" للأغلبية النيابية، قبل الذهاب إلى خيار تكليف رئيس الحكومة.

وإضافة إلى استبعاد فكرة النظام البرلماني، عمدت التعديلات الدستورية إلى تعزيز سلطة مؤسسة الرئاسة، عبر اقتراح استحداث منصب نائب الرئيس، الذي يساعد رئيس الجمهورية في ممارسة صلاحياته، ويحلّ محله في حال حصول مانع أو شغور منصب الرئيس ويسمح بإتمام العهدة الرئاسية، على الرغم من أنه غير منتخب. كما أبقت التعديلات سلطة تعيين رئيس المحكمة العليا، وهو رئيس المجلس الأعلى للقضاء بالإنابة، لدى رئيس الجمهورية، ما يبقي على هامش ارتباط بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، إضافة إلى منصب وزير الدفاع وكذا سلطة التعيين في المناصب العليا وحق التشريع بالأوامر الرئاسية بين عطلتي البرلمان، وتعيين ثلث أعضاء مجلس الأمة، في مقابل الإبقاء على صلاحيات البرلمان نفسها في التشريع والرقابة، وتحديد ظروف سحب الثقة من الحكومة.

وتبرر اللجنة الدستورية عدم مساسها بطبيعة النظام القائم أو تقييد صلاحيات الرئيس بأنّ مهمتها غير تأسيسية ولا تتيح لها إعادة صياغة كاملة للدستور ومراجعة النظام السياسي، وكذا بسبب القيود التي حددها الرئيس تبون للجنة في رسالة تكليفها بتعديل الدستور.

وفي السياق، قال الخبير في القانون الدستوري، سعيد يحياوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ اللجنة الدستورية أقرّت بوضوح أنّ ما قامت به هو "تعديلات دستورية وليست مسودة دستور"، مشيراً إلى أنّ "التعديلات جاءت ضمن التزام حرفي برسالة التكليف التي وجهها الرئيس عبد المجيد تبون إلى اللجنة عند تشكيلها، بحيث لم تخرج عن إطارها، ولذلك لم تقم بتغييرات عميقة تمسّ نظام الحكم والعلاقات الوظيفية بين مؤسسات الدولة".

وأضاف يحياوي: "بقينا داخل مربع النظام الرئاسي مع هوامش ضعيفة وازدواجية ممكنة للسلطة التنفيذية بوجود رئيس حكومة يمكن أن يكون له برنامج مستقل عن برنامج الرئيس، ويمكن أن يتم تعيينه بعد التشاور مع الأغلبية الفائزة بالانتخابات النيابية، لكن الدستور أبقى مسألة التشاور في صيغة الممكن وليس الإلزام". وأشار المتحدث نفسه إلى أنّ "المسودة أبقت على الغرفة الثانية للبرلمان؛ مجلس الأمة، على الرغم من تعهدات سابقة للرئيس تبون خلال الحملة الانتخابية بسحبها من تركيبة البرلمان"، موضحاً أن "مجلس الأمة عند إنشائه عام 1996 كان خيار المؤسسة الأمنية، وجاء بعد تجربة مريرة متعلقة بالفراغ الدستوري ومشكلة الشرعية، ولذلك يستحيل المساس به".

ولم ترق التعديلات الدستورية، بحسب أولى ردات الفعل، خصوصاً في ما يتعلق بالنظام الرئاسي والإبقاء على صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، إلى طموحات ثورة فبراير، فالعديد من القوى السياسية وجدت أن الإبقاء على النظام الرئاسي لا يتساوى مع طبيعة المرحلة. وفي هذا الإطار، قال رئيس حركة "البناء الوطني" (فصيل من إخوان الجزائر) عبد القادر بن قرينة، في تصريح مكتوب أخيراً، إنّ "صلاحيات رئيس الجمهورية في الوثيقة الدستورية تحتاج تدقيقاً أكثر بما يستجيب لمطلب بناء دستور يوازن بين السلطات". وأكد أنّه " كان متوقّعاً من الوثيقة أن تكرّس مطالب الحراك وشعاراته، وتتضمن جميع مطالبه بكل تفاصيلها، وتبرز تطلعات الشباب، وتجري قطيعة حقيقية مع كل ممارسات الماضي البالية".

ولا يزال أمام القوى السياسية والمدنية فرصة أخيرة خلال فترة مناقشة مسودة الدستور التي حددتها الرئاسة بشهر، لتقديم مقترحاتها والضغط لإجراء تعديلات جديدة، بما يعيد التوازن بين السلطات، ويمنح البرلمان صلاحيات أوسع، فضلاً عن مراجعة حق تشكيل الحكومة للحزب الفائز في الانتخابات. لكن ذلك يبقى مرتبطاً بمدى قدرة اللجنة الدستورية على إدخال تعديلات كهذه. ويعتقد بعض المحللين أنّ المشهد الجزائري، باختلالاته المختلفة، لا يضع الجزائر في حالة جاهزية للتحوّل الفوري من نظام رئاسي إلى نظام برلماني، في ظلّ خريطة سياسية مهترئة. إذ يتطلّب الأمر مرحلة انتقال سياسي تتم خلالها إعادة تشكيل الساحة السياسية و"تطهيرها من المجموعات الطفيلية"، بما يتيح تشكّل قوى سياسية جديدة تمثّل مرحلة ما بعد فبراير وشباب العهد الجديد.

مسودة تعديل الدستور
المساهمون