صنعاء وخطر كورونا: توظيف سياسي وغياب الإجراءات الصحية

30 ابريل 2020
تراجع الالتزام بالإجراءات الوقائية أخيراً (محمد حمود/Getty)
+ الخط -

مع انتشار فيروس كورونا في العالم، سعى كل بلد للتعامل معه وفقاً لقدراته، ومن هؤلاء تلاميذ مدارس العاصمة اليمنية صنعاء الذين تحوّلوا إلى بائعي كمامات تزامناً مع بدء التحضيرات لمواجهة الفيروس بموازاة توقيف الدراسة كإجراء احترازي. لكن القيمة المالية للتعقيم باتت باهظة الكلفة، إذ ارتفع سعر برميل محلول الميثانول المستخدم كمادة كحولية معقمة تدخل في تركيبة مستحضرات التعقيم والتطهير اللازمة لمواجهة كورونا في أسبوع واحد من 200 دولار أميركي إلى 1400 دولار، بالتالي أصبحت صناعة المطهّرات مصدراً مدراً للأرباح الخيالية، فقفزت أسعار المعقمات والكمامات إلى أكثر من خمسة أضعاف سعرها في فبراير/شباط الماضي، وتحول فيروس كورونا إلى موضوع للتوظيف السياسي والمالي، وأيضاً للسخرية وترويج الإشاعات عن الأدوية الواقية منه من قبل بعض رجال الدين، الذين اعتبروا الفيروس في البداية معجزة إلهية لمعاقبة الصينيين (الكفار).

قبل إعلان أي حالة إصابة بفيروس كورونا في اليمن، وجّهت قيادات من جماعة "أنصار الله" (الحوثيين)، بمن فيهم زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، الاتهامات إلى السعودية والولايات المتحدة بمحاولة نشر الفيروس في اليمن، مع تحميلهما مسؤولية ذلك. وسبق للجماعة أن رفعت شعارات مفادها أن "الكوليرا هدية أميركية للشعب اليمني" عند تفشي وباء الكوليرا منتصف عام 2017، إلا أنها حذفت كلمة "الكوليرا" هذه المرة واستبدلتها بـ"فيروس كورونا".

مع العلم أن تسييس انتشار الأوبئة والأمراض في اليمن بدأ منذ اندلاع الحرب في مارس/ آذار 2015 مع تراجع مستوى الخدمات الصحية المتدني أصلاً منذ ما قبلها، أصبح ممارسة منظمة لسلطات الأمر الواقع في صنعاء، مع عدم إظهار أي مسؤولية أمام الضحايا. ففي العام الماضي منعت الجماعة طائرة تابعة لمنظمة دولية من تفريغ حمولتها من لقاح الحصبة في مطار صنعاء، وتمت إعادتها إلى جيبوتي مرتين، بعد مطالبة قيادات حوثية باستبدال اللقاحات بأدوات جراحية يريدون توفيرها لمقاتليهم في الجبهات.

أما في شأن كورونا، فقد أعلنت صنعاء منذ أسابيع عن أول حالة مشتبه بإصابتها بالفيروس ووصفت وضعها بأنه حالة "اشتباه عالٍ"، وتمّ التركيز على أن الحالة تعود لامرأة آتية من السعودية بغية رمي التهمة على الرياض، وتأكيد اتهامات الحوثيين المسبقة لها بمحاولة نشر الفيروس في اليمن. وعلى الرغم من التأكد لاحقاً من عدم إصابة المرأة، إلا أن وضعها في الحجر مع أسرتها كان قد تمّ عملياً، وتسبب في حالة رعب عامة في صنعاء. وكان مراسلو وكالات عالمية، كـ"أسوشييتد برس"، ينتظرون الإعلان رسمياً عن الحالة المصابة في مؤتمر صحافي، قبل إلغائه من قبل مسؤولي الصحة في صنعاء بعد دعوة الصحافيين إليه، وتجميد تقرير نتائج فحص الحالة، وفقاً لما ذكر مراسل الوكالة في صنعاء أحمد الحاج، في تغريدة على "تويتر". حتى أن نائب رئيس وكالة الأنباء الرسمية "سبأ" التابعة للحوثيين في صنعاء، محمد عبد القدوس، استبق الإعلان الرسمي بتغريدة على "تويتر" تؤكد الإصابة، لكنه حذفها في ما بعد، وتسبب نشرها بتوقيفه عن العمل. وفُسّر الأمر برمته لاحقاً بحالة ارتباك وتخبط وفقاً لبعض المراقبين، بينما فسّره آخرون بأنه حالة إثارة مقصودة للاستفادة من وقع الخبر وربطه بالسعودية كهدف أساسي.



اتهامات لأميركا
وفي سياق حملات التوعية، نُشرت إعلانات في الشوارع مموّلة من منظمات دولية تتضمن إرشادات الوقاية من الفيروس، غير أنه رُفعت لوحات أخرى داخل الكثير من المطاعم والمستشفيات ليس من ضمنها أي إرشادات وقائية، بل تحذيرات من أن نشر الفيروس في اليمن هو هدف أميركي واضح. وقد انتشرت لوحات مماثلة في أواخر العام الماضي عند تفشي فيروس أنفلونزا الخنازير في صنعاء، وقبلها في عام 2017 عند تفشي وباء الكوليرا.

إعلامياً، ظهر أن الحوثيين يتعاملون بجدية وحزم لمواجهة انتشار كورونا في بلد يعمل بنصف قدراته الصحية المتواضعة، ومعدل عدد العاملين الصحيين فيه قياساً لعدد المواطنين من أدنى المعدلات العالمية (4 عمال صحيين لكل ألف مواطن)، كما تم إلزام أصحاب المطاعم بتعقيمها. وعلى الرغم من تنفيذ ذلك بشكل واسع في البداية، غير أن الالتزام به تراجع في الأيام الأخيرة بشكل واضح.

وعلّقت الجماعة الصفوف التعليمية في المدارس والجامعات، مع إغلاق المقاهي وقاعات الأفراح والمناسبات، ووقف أنشطة المنظمات المدنية التي تتطلب حضوراً جماعياً، كفعاليات التدريب وورش العمل، فضلاً عن خفض نسب حضور الموظفين في المؤسسات الحكومية بنسبة 80 في المائة. كما أعادت وزارة الصناعة في صنعاء فتح مصنع الغزل والنسيج المغلق منذ سنوات لإنتاج الكمامات القماشية بغية سد العجز الذي أحدثه الطلب المرتفع عليها، ثم فُتحت مقارّ للحجر الصحي لاحقاً على خطوط التماس مع الحكومة اليمنية، أي منافذ العبور المستحدثة بين مناطق سيطرة الطرفين، وهي محاجر لا تتمتع بأي قدر من المواصفات التي تساعد على الحدّ من انتشار الفيروس، حتى أن دورات المياه فيها قذرة ومحدودة.

وبدلاً من تحول تلك المحاجر إلى أدوات حماية وتطويق للوباء، إلا أنها، بوضعها الراهن، أضحت وسيلة لتسريع نشر الفيروس في حال وجود شخص مصاب به، بحكم تكدّس أعداد كبيرة من الناس في مساحات ضيّقة بلا فواصل ولا كمامات ولا قفازات ولا دورات مياه نظيفة ولا تغذية. كما تحولت تلك المحاجر إلى أداة لابتزاز المسافرين، بعد تهريب أعداد كبيرة منهم بمبالغ مالية تراوح بين 400 و500 ريال سعودي (بين 107 دولارات و133 دولاراً)، خصوصاً في مقرّ كلية التربية في رداع، الذي استُخدم حجراً صحياً للآتين من حضرموت ومأرب، وأغلبهم من المغتربين اليمنيين في السعودية، قبل أن يتم إغلاقه لاحقاً من قبل حكومة عبد ربه منصور هادي. وانتشرت الظاهرة لدرجة إصدار تعميم رسمي من سلطات الحوثيين بصنعاء وتخصيص خط ساخن للإبلاغ عن الحالات.

مع كل موجة انتشار لوباء في اليمن وأبرزها الكوليرا وحمى الضنك وأنفلونزا الخنازير، يتسم خطاب سلطات الحوثيين بمميزات تتكرر في كل حالة، أي اتهام التحالف وأميركا بنشر الوباء ومطالبة المنظمات الدولية بتوفير متطلبات مواجهة انتشاره، فضلاً عن دعوة القطاع الخاص للمساهمة في مواجهته، مع تشكيل لجنة طوارئ غالباً ما تكون شكلية. ويعتبر مراقبون أن حديث الحوثيين عن استخدام أموال الصناديق الخاصة لمواجهة انتشار الفيروس هو استغلال وتوظيف للوباء لتغطية ممارسات الجماعة المتعلقة بالفساد، فضلاً عن أن المنظمات الدولية تلقت اتهامات من الحوثيين بالتقصير في المجال الإنساني، في ظلّ احتدام التوتر بينهما على خلفية الاتهامات المتبادلة بممارسة الفساد. مع العلم أن الصناديق الخاصة هي صندوقا الشباب والتقاعد، ويتمّ تمويلهما من الضرائب المفروضة، وسبق لحكومة هادي أن اتهمت الحوثيين بمصادرة الصناديق ونهبها.



وتزامن الأمر مع إعلان هذه المنظمات تقليص مجالات عملها في اليمن نتيجة عدم الحصول على التمويل اللازم لها، وهو ما رفضه المجلس الأعلى لتنسيق المساعدات الإنسانية التابع للحوثيين، ما أدى إلى شنّ أجهزة إعلام الجماعة وقادتها حملات ضد آلية توزيع المنظمات للمساعدات، واعتبرتها "سياسة متعمّدة" لتجويع اليمنيين ودفعهم للاعتماد على هذه المساعدات، من دون بذل جهداً لمواجهة واقعهم. مع العلم أن كلاً من سلطات هادي وسلطات الأمر الواقع للحوثيين لم تقوما بمسؤوليتهما المباشرة بدفع رواتب موظفي القطاع العام في مناطق سيطرة الحوثيين منذ سبتمبر/ أيلول 2016، مع استثناءات ضئيلة، معززين اشتداد الأزمة الإنسانية في اليمن، لتعتبرها الأمم المتحدة الأسوأ في العالم. وسيتفاقم الوضع في حال استمرار وقف الولايات المتحدة تمويل مكافحة انتشار الكوليرا حتى يونيو/ حزيران في كل من إب وتعز والحديدة، الذي بدأته في مارس/ آذار الماضي. فتجميد واشنطن تمويلها لهذه الأنشطة مشروط برفع الحوثيين القيود على المساعدات، حسب تقارير صحافية أميركية.

في هذا الإطار، ذكر وزير الصحة في حكومة الحوثيين طه المتوكل، أمام البرلمان في صنعاء، أن الجمهورية (في إشارة للسلطات اليمنية منذ ثورة 26 سبتمبر 1962)، لم توفر سوى 200 جهاز تنفس خلال ثلثي قرن، وأن جماعته وفرت 200 جهاز منها خلال شهر واحد، في ترويج للجماعة واتهام بالتقصير للأنظمة السابقة في الوقت عينه. ولكن استخدامه لمصطلح "الجمهورية" فُسّر من قبل الكثير من اليمنيين على أنه إساءة مقصودة للنظام الجمهوري، وتلميح ضمني إلى انقطاع سياق عهد الحوثيين عن الدولة الجمهورية في اليمن، إذ تُتهم الجماعة بمحاولة استعادة نظام الأئمة الذي كان قائماً قبل إسقاطه في ثورة سبتمبر 1962، لا سيما مع استخدامها الخطاب الديني نفسه الخاص بـ"الولاية"، وهو مبدأ ديني يؤمن به المسلمون الشيعة.

وكشف طه أيضاً عن وضع صادم ومرعب سيقع فيه اليمن في حال تفشى فيه الفيروس، خصوصاً مع تحوله مرتعاً لأوبئة أصبحت منسية في دول العالم الأخرى. وحسب منظمة "أوكسفام"، فقد ازداد معدل انتشار الكوليرا خلال عام 2019 بنسبة 132 في المائة، مقارنة بالعام 2018، وتم تسجيل أكثر من 56 ألف حالة مشتبه بها في الأسابيع السبعة الأولى من عام 2020، والخبر الأسوأ أن هذا الوباء ينتشر بشكل أوسع خلال موسم الأمطار الذي بدأ في اليمن الشهر الماضي.

توظيف سياسي ومادي
ومع توظيف الحوثيين قضية فيروس كورونا سياسياً ومالياً، بدأ سكان صنعاء بالقول إن المسؤولين عن مواجهة الفيروس من الحوثيين هم الفيروسات الأخطر، وجميعهم ينتمون إلى طبقة الهاشميين، التي يقول أتباعها، ومنهم زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، إنهم يملكون الحق وحدهم في الحكم، فوزير الصحة طه المتوكل، ووكيل الوزارة لقطاع الرعاية محمد المنصور، ووكيلها للطب العلاجي علي جحاف، ومدير الصحة في العاصمة مطهر المروني، ومدير مستشفى الكويت المخصص لمواجهة الفيروس أمين الجنيد، ورئيس لجنة الطوارئ في العاصمة عبد الوهاب شرف الدين، وأيضاً المتحدث باسم اللجنة عبد الحكيم الكحلاني، جميعهم من الهاشميين وتولوا مناصبهم بعد سيطرة الحوثيين على السلطة.



ومن أدوات التوظيف أيضاً، إدراج قصف السعودية لمناطق متفرقة في صنعاء ومحافظات أخرى ضمن المعركة ضد الوباء، وأسقطت في بعضها، حسب روايات الحوثيين، كمامات للوجه، محذّرين عبر وسائل إعلامهم المواطنين من استخدامها أو حتى لمسها، في سياق اعتبارهم أنها وسيلة لنشر الفيروس في اليمن. وكما ركز الحوثيون على السعودية كمصدر متوقع لإدخال الوباء إلى اليمن، وجّه مناهضون للجماعة على صفحاتهم في مواقع التواصل اتهاماً معاكساً، فحذّروها من نقل الطائرات الأممية حوثيين عائدين من إيران بعد انتشار الفيروس فيها، في إشارة إلى أن الحوثيين حلفاء لطهران لكنهم يتجاهلون مصدر الخطر إذا أتى منها، وفي اتهام للأمم المتحدة بالتواطؤ مع الجماعة عبر نقل طائراتها قياداتهم من صنعاء وإليها، كامتداد لاتهامات مستمرة للمنظمة الأممية بالانحياز للجماعة.

أما في إطار استغلال رعب المواطنين من انتشار الفيروس، فقد نُشرت شائعات عدة حول مواد تمنع الإصابة بالفيروس، استفاد منها التجار في مختلف القطاعات، فقد أقبل تجار الخضروات على شراء الثوم كمضاد للفيروس، والبصل لتقطيعه شرائح ونشرها في أركان المنزل لطرد الفيروس، كما أظهر مقطع فيديو متداول رجلاً يبيع مادة غريبة تشبه الحناء بأسعار خيالية، مع إقبال الناس على شراء مادته من دون تردد.

دينياً، دعا خطباء الجمعة في صنعاء الشبان للتوجه إلى جبهات القتال، ليموتوا "شهداءً" بدلاً من انتظار الموت على يد كورونا، وربط آخرون، من السلفيين غالباً، الوقاية من الفيروسات بالأحاديث النبوية التي تنصّ على تربية اللحى للرجال، وارتداء النقاب للمرأة. بالنسبة لهؤلاء، فإن اللحية تعمل على فلترة الفيروسات وحجزها قبل وصولها إلى أنف الرجل، أما النقاب للمرأة فأكثر فعالية من الكمامات، حسب قولهم.

بدوره، خلق محمد عبد المجيد الزنداني، نجل رجل الدين المثير للجدل عبد المجيد الزنداني المقيم في تركيا، حالة جدل واسعة يمنياً، بادّعائه ابتكار لقاح لفيروس كورونا. وكان والده قد اشتهر لعقود بالربط بين العلم والدين، عبر ما يسميه "الإعجاز العلمي للقرآن"، قبل الانتقال إلى الحديث عن "الطب النبوي"، معلناً أكثر من مرة استفادته منه بتوصله لعلاج أبرز الأمراض القاتلة كالإيدز، من دون إثبات حالة شفاء واحدة.

وفي ظل استمرار خروج الناس وتسوقهم كما في السابق، ومع تدني حالة الوعي بخطورة الفيروس وطرق الوقاية منه، واضطرار الناس للخروج للعمل لكسب قوتهم اليومي بعد سنوات من انقطاع الرواتب، وفي ظل حالة انهيار الخدمات الصحية المتواضعة أصلاً، ومع عدم وجود سياسات جادة لمواجهة الفيروس تتجاوز الخطاب السياسي، خصوصاً مع تقليص حجم المساعدات الإنسانية لليمن، ووقف بعض أنشطتها، والعلاقة المتوترة مع جماعة الحوثيين، ومع استمرار الشحن الديني، وارتياد المصلين للمساجد بشكل مكثف خلال شهر رمضان، يُخشى من أن تتسبب أي حالة إصابة بفيروس كورونا بخلق كارثة غير مسبوقة في اليمن.