وحتى وقت قريب، كان ترامب يقلل من أهمية خطر الفيروس، ويعتقد أنّ بلاده بعيدة عنه، واضعاً في سلم أولوياته عدم السماح لأي شيء بالتأثير على حملة الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ففي 26 فبراير/شباط الماضي، توقّع بأنّ عدد الأميركيين المصابين "سينخفض قريباً إلى الصفر"، قبل أن يبدأ أخيراً بالتحذير من أنّ أميركا ستدخل "مرحلة مروعة" جراء الفيروس نفسه. وفي 25 فبراير الماضي، أصرّ المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض، لاري كودلو، على أنّ الولايات المتحدة "احتوت" التهديد الناتج عن الفيروس لأنّ إدارة ترامب أبقت حدود البلاد "قريبة جداً من الإغلاق"، قبل أن يعود ويقول أخيراً إنّ الولايات المتحدة تعاني في ظلّ انكماش اقتصادي مؤلم جداً جراء كورونا وتداعياته، فيما كانت تصريحات المسؤولين في الأيام الماضية تمهد للأسوأ وتتحدث عن مشهد أشبه بلحظة "11 سبتمبر/أيلول 2001".
الحقيقة التي تبدو ظاهرةً، هي أنّ ترامب ومختلف أعضاء إدارته ومساعديه أخفقوا في تقييم الموقف. ويبرز في السياق ما نشرته وكالة "رويترز" قبل أيام، عندما أشارت إلى أنّ الإدارة الأميركية استغرقت شهراً منذ علمت بانتشار الفيروس في أواخر ديسمبر/كانون الأول، قبل فرض أي قيود مبدئية على السفر، وسط خلافات داخلية شديدة. ويقول مسؤولان حكوميان مطلعان على ما دار من مداولات، للوكالة، إنّ العاملين في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية ووكالات اتحادية أخرى، ظلّوا خلال تلك الفترة يتجادلون في كل شيء، من أفضل السبل لفحص المسافرين المرضى إلى الأثر الاقتصادي لأي قيود تفرض. وقال أحد المسؤولين إنّ العاملين في مجلس الأمن القومي اقترحوا في النهاية على كبار المسؤولين في الإدارة، فرض قيود مشددة على السفر، غير أنّ الرئيس استغرق أسبوعاً آخر على الأقل قبل إقرارها.
وتبيّن أرقام استشهدت بها إدارة ترامب، أنّ كل يوم كانت تدور فيه المداولات حول إجراءات السفر كان يصل إلى الولايات المتحدة نحو 14 ألف مسافر وافدين من الصين. وكان من بين هؤلاء مسافر قادم من ووهان إلى سياتل، في منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، اتضح لاحقاً أنه أول حالة إصابة بالفيروس تتأكد في الولايات المتحدة. كما أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أرقام رسمية، بيّنت أنّ نحو 430 ألف شخص سافروا إلى الولايات المتحدة وافدين من الصين، منذ أواخر ديسمبر، بينهم قرابة 40 ألف بعد الحظر الذي أعلنته السلطات على المسافرين الوافدين من دول تصنّف على أنها بؤر ينتشر فيها الوباء.
وفي المجمل، بدا أنّ تفكير مسؤولي الإدارة الأميركية لم يجتز حدود أميركا وأمنها، بعدما تحدثوا قبل أن تقع الكارثة، بتفاؤل مبالغ فيه عن مساعي الحدّ من انتشار الوباء في الولايات المتحدة، من دون الانتباه إلى أنّ الأمن القومي للبلاد، ليس فقط نتاج قوة ومجهود دولة واحدة، والتركيز فقط على الداخل، عملاً بمبدأ "أميركا أولاً"، لا ينفع في أزمة مثل الأزمة الحالية.
ومنذ توليه الحكم، بدا ترامب كارهاً للعمل الدولي المشترك وللتحالفات، وأبدى عدم اكتراث لأهمية المؤسسات الدولية التي كانت الولايات المتحدة قد ساهمت في إنشائها، وتخلى أو خفّض الدعم لكثير منها. كما انسحب من مختلف الاتفاقيات الدولية وهاجم دولاً صديقة وسخّف من تحالفات تعدّ دولته في صلبها، كحلف شمال الأطلسي الذي قال إنه "عفى عليه الزمن"، وقطع المساعدات الخارجية عن دول عدة. لكل هذا التقويض للعمل الدولي والتخلي عن الالتزامات الأممية خصوصاً، في ظلّ أزمة كورونا العابرة للدول والقارات، وكذلك لشعار "أميركا أولاً"، تداعيات عدة تجلّت أخيراً وستظهر على نحو أكثر وضوحاً في الأيام المقبلة لناحية السيطرة على الوباء.
وفي هذا السياق، تنقل صحيفة "لوس أنجليس تايمز" عن نيكولاس بيرنز، الدبلوماسي الذي تولى مناصب في وزارة الخارجية في كل من إدارتي الجمهوريين والديمقراطيين، قوله إنه "لسوء الحظ، أمضى الرئيس دونالد ترامب السنوات الثلاث الماضية في تحقير وإهانة مؤسسات سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وتشويه صورة القيادة الأميركية والعمل الجماعي العالمي الذي تروج له، وهو أحد أسباب عدم استجابة العالم لوباء كورونا إلى الآن".
واستكملت الإدارة الأميركية سياسة قطع المساعدات الخارجية عن بعض الدول وتخفيض المساهمات في مؤسسات عالمية حتى في زمن كورونا، ورفضت اعتماد الدبلوماسية مبكراً لمواجهة الخطر، إذ ذهب ترامب بدايةً إلى وصف كورونا بـ"الفيروس الصيني" ومهاجمة بكين، بدل الانصراف إلى توحيد الجهود العالمية لتخطي الأزمة.
ففي فبراير/شباط الماضي، وخلال انتشار فيروس كورونا في الصين وخارجها، اقترحت إدارة ترامب خفض المساعدات الأميركية الخارجية، بما في ذلك الصحية، في ميزانية السنة المالية 2021، بنسبة 21 في المائة، وذلك لمجابهة التهديدات الاقتصادية المتنامية من الصين وروسيا. ومن ضمن ذلك خفض نسبة 35 في المائة من التمويل لصالح برامج الصحة العالمية، بقيمة تصل إلى نحو ثلاثة مليارات دولار، بما في ذلك أيضاً خفض نسبة 50 في المائة من الدعم الأميركي لمنظمة الصحة العالمية. كل ذلك حصل قبل أن يهدد ترامب علناً، قبل أيام، بوقف تمويل المنظمة الأممية، منتقداً طريقة إدارتها لأزمة كورونا، إذ اتهمها بالتحيّز لصالح الصين من خلال إصدار إرشاداتها أثناء تفشي الوباء.
وكانت أميركا قد خفضت بالفعل مساعداتها لدول ومؤسسات عدة وقطعتها عن أخرى، وهو ما يمكن أن ينعكس في هذه الظروف، بشكل أكثر سلبية من السابق، على دول فقيرة تعاني حالياً من كورونا وتحتاج إلى أي تمويل لمواجهته. ومن آخر الإجراءات الأميركية في هذا الشأن، كانت تلك التي استهدفت أفغانستان، إذ أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن خفض مساعدة بقيمة مليار دولار لكابول على خلفية الأزمة السياسية في هذا البلد، التي أعقبت إجراء الانتخابات الرئاسية، وإصرار المرشح الرئاسي عبد الله عبد الله على رفض الاعتراف بنتائج الانتخابات التي أعلن بموجبها فوز الرئيس أشرف غني بولاية ثانية، وفشل الوساطة التي قام بها بومبيو لحثهما على تسوية، كما جرى في عام 2014 عندما تكرر السيناريو نفسه. علماً بأنّ الحكومة الأفغانية تعتمد بشكل كبير على الإيرادات من الجهات المانحة لتسيير الدولة، ومع هذا الخفض الأميركي، قد لا تستطيع الحكومة مواجهة أخطار كورونا والسيطرة على تفشيه.
مثال آخر في هذا الإطار، هو وقف واشنطن تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى "أونروا"، المعنية بشكل أساسي بتقديم الرعاية الصحية والخدمات للاجئين الفلسطينيين، وذلك ضمن خطتها الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، ومحاولة طمس حق اللاجئين بالعودة، الذي يعدّ من أبرز ملفات ما يعرف بـ"قضايا الحل النهائي" (وهي القدس، والمستوطنات، والحدود، واللاجئين، والمياه). وفي هذا السياق، تشير كبيرة مديري السياسة في مؤسسة "ميرسي كور" الدولية، ميغان دوهرتي، في حديث لمجلة "فورين أفيرز" الأميركية، إلى أنّ اللاجئين والسكان النازحين "معرضون بشكل خاص للفيروس، لأنه في المخيمات يكون أخذ المسافة مستحيلاً ويفتقر الناس إلى الوصول للمعلومات والصابون والمياه النظيفة". وهو ما يجعل تمويل المؤسسات التي تقدم مساعداتها للاجئين ضروريا أكثر من أي وقت مضى، في هذه الظروف.
كما أنّ حزمة التحفيز الاقتصادي لمواجهة تداعيات كورونا، والتي تبلغ 2.2 تريليون دولار، ومررها الكونغرس الشهر الماضي، لا تعالج بشكل كاف البعد العالمي للأزمة، وفق ما تقول "فورين أفيرز". وتوضح أنّه من الحزمة كاملة، يخصص فقط 1.5 مليار دولار، لدعم الأنشطة الدولية لوزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها.
وترى المجلة الأميركية أنّ "فشل ترامب في قيادة استجابة عالمية منسقة، إلى جانب ممارسته للتوبيخ والاستخفاف والتسلّط على أقرب حلفاء الولايات المتحدة وأغناهم، سمح للكثيرين بشكل ملحوظ بالنظر إلى الصين كقائد عالمي أكثر مسؤولية من أميركا"، وسط غرق البعض في التركيز على إنسانية الصين جراء المساعدات التي تقدمها للدول المنكوبة والتغاضي عن حقيقة إدارتها السيئة لأزمة تفشي الفيروس منذ البداية، قبل أن تبدأ في تدارك أخطائها.
ولعلّ فشل مجموعة السبع في 26 مارس الماضي، في الاتفاق على بيان ختامي لاجتماعها، بسبب إصرار وزير الخارجية مايك بومبيو على تضمين البيان وصف كورونا بـ"فيروس ووهان"، خير دليل على النزعة الأحادية والبعيدة عن أي تعاون، حتى في ظلّ الأزمات، من قبل إدارة ترامب.
تجاهل ترامب حقيقة أنّ الفشل في هزيمة الوباء في الخارج، سيؤدي حتماً إلى وصوله للداخل. ولكن حتى مع وصول الفيروس إلى الولايات المتحدة وفتكه بالكثير من الأميركيين، كان الرئيس يواصل العمل بمبدأ "أميركا أولاً"، إنما بطريقة يصح وصفها بغير الشريفة. فقد ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" الأميركية في الثالث من إبريل/نيسان الحالي، أنّ البيت الأبيض طلب من شركة "ثري أم" الأميركية التي تنتج أقنعة وأجهزة تنفس اصطناعي، إرسال 10 ملايين قناع من نوع "أن 95" (N95)، يتم إنتاجها في سنغافورة، ومخصصة لأسواق في آسيا، إلى الولايات المتحدة. فيما ذكرت صحيفة "الغارديان" البريطانية أنّ الشركة صرحت بأنّ إدارة ترامب طلبت منها كذلك عدم تصدير الأقنعة التي تصنعها إلى كندا وأميركا اللاتينية. وقال الرئيس التنفيذي للشركة الأميركية مايك رومان، إنّ عدم تصدير تلك المعدات ستكون له "تداعيات إنسانية كبيرة"، وذلك بحكم أنّ الشركة هي مورد رئيسي لتلك الدول.
وتعقيباً على قرار إدارة ترامب، قال رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، إنّ الخطوة الأميركية "قرار خاطئ"، مشدداً على ضرورة تعاون الدول في مواجهة وباء كورونا، ونوه إلى أنّ أميركا بدورها تستورد معدات طبية من كندا.
ويتجلى هنا شعار "أميركا أولاً" بكل وضوح، إذ إنه يستهدف الدول الجارة قبل تلك البعيدة، والحلفاء قبل الخصوم. لكن مع كل ما يجري، وفي ظلّ الأزمة الصحية الكارثية التي تعيشها الولايات المتحدة، يبقى التساؤل حول ما إذا كانت ستواصل إدارة ترامب النهج نفسه، الذي يضرّ بالأميركيين وغيرهم في مختلف أنحاء العالم أم سيكون هذا الشعار أيضاً أحد ضحايا كورونا في الأيام المقبلة؟