التلويح المصري بالحلّ العسكري لحسم قضية سد النهضة، ليس جديداً، وإن كان هذه المرة هو الأوضح، نظراً لعقد هذا الاجتماع العسكري الطارئ بعد ساعاتٍ معدودة من تراشق القاهرة وأديس أبابا بالبيانات. بل إن الاجتماع تزامن بغير تخطيطٍ مع مؤتمر صحافي عقده وزيرا الخارجية والمياه الإثيوبيان، جودو أندارجاشيو وسيلشي بيكيلي، أكدا فيه إصرار أديس أبابا على بدء ملء السد في يوليو/تموز المقبل بكمية 4.9 مليارات متر مكعب من المياه، وبدء إنتاج الكهرباء في فبراير/شباط أو مارس/آذار من العام المقبل، ضرباً بعرض الحائط للتحذيرات المصرية والأميركية.
وسبق أن وجّهت مصر رسائل تلويح عدّة بالحل العسكري، وإن كانت أقل وضوحاً، منها في منتصف يناير/كانون الثاني الماضي بافتتاح أكبر قاعدة عسكرية مصرية، بحرية جوية، على ساحل البحر الأحمر، في منطقة برنيس شمال مثلث حلايب وشلاتين. وفسّر مراقبون حينها هذه الخطوة بأنها رسالة شديدة اللهجة "ولو متأخرة" إلى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الذي سبق أن تحدث عن استعداده للتصعيد الحربي، وردّ عليه السيسي بأن مصر لا تفكر في الحرب، وتصر على اتباع المفاوضات السياسية لحلّ القضية.
كما سبق لمصر مرات عدة استخدام عبارة "حماية حق الشعب المصري في الحياة بكل الوسائل المتاحة"، التي تنصرف بالتأكيد لما هو أبعد من الحلول الدبلوماسية والفنية. وكان أحدث استخدامٍ لها في بيان الخارجية المصرية تعقيباً على مقاطعة إثيوبيا لجولة التفاوض الأخيرة في واشنطن.
أما الشق الثاني، فهو عنصر القرار السياسي على ضوء الاعتبارات المحلية والخارجية. وتوضح الشواهد بحسب المصادر أن "استخدام الحلّ العسكري في الوقت الحالي ليس مطروحاً على الصعيد العملي والواقعي"، وأن السيسي لا يزال يرغب في تسويق صورته كـ"رجل سلام"، ويسعى أيضاً لاستغلال رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تحقيق الهدف نفسه. يذكر أن الاتصال الأخير بين ترامب والسيسي أول من أمس تضمن تأكيد استمرار واشنطن في لعب دور المراقب أو المُسّهل أو الوسيط، بحسب رؤية كل طرف، للتوصل إلى حلٍّ نهائي للأزمة.
مصادر دبلوماسية مصرية اتفقت من جهتها على ترجيح استبعاد الحل العسكري، مؤكدة أن الورقة الأبرز التي تروج بها مصر حالياً لسلامة موقفها، هي اعتناقها من البداية لفكرة التفاوض السلمي والدبلوماسي، انطلاقاً من التوقيع على اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015، والذي تضمّن اعترافاً مصرياً للمرة الأولى بحق إثيوبيا بإنشاء سد النهضة، خروجاً على الرؤية المصرية السابقة التي كانت تتمسك باتفاقي 1902 و1959 بشأن توزيع حصص مياه النيل على مصر والسودان، ومنع إثيوبيا من بناء أي منشآت على النيل بدون إذن مصر والسودان.
وأوضحت المصادر أن مصر حالياً تكثف اتصالاتها بالدول الغربية التي لها مستثمرون وشركات عاملة في مشروع السد أو تخطط للمشاركة في المشاريع التنموية التي ستنشأ بعد إنجازه، لترويج عدالة قضيتها وسلامة موقفها، بما في ذلك قبولها طلب إثيوبيا التخزين الكثيف للمياه في أول عامين، وموافقتها على بدء الملء في يوليو/تموز الحالي مقابل الاحتكام في ما بعد لكمية فيضان النيل الأزرق، ووضع آلية مشتركة محكمة لإدارة الكميات المنصرفة في فترات الملء والجفاف الشديد.
وذكرت المصادر أن الموقف الإثيوبي الأخير بمقاطعة جولة التفاوض الأخيرة في واشنطن "ترك أثراً سلبياً على الصورة التي استقرت في العواصم الغربية عن إثيوبيا، باعتبارها سبق أن قبلت الاحتكام لمسار التفاوض برعاية الولايات المتحدة، وبالتالي فإنها أظهرت نفسها في موقف الطرف الرافض للتفاوض والتوصل لحلول".
ويعكس حديث المصادر المصرية أن الرهان الأول للسيسي سيبقى منحصراً لأجل غير مسمى في خانة الجهود التفاوضية والدبلوماسية، والتي في أفضل الأحوال يمكنها إنتاج اتفاق برعاية أميركية لا يصل بالضرر الذي سيقع على مصر إلى حد الجسامة، بينما تعتقد إثيوبيا أن عليها المضي قدماً في تعلية سقف مطالبها، ليصبح أقصى ما يمكن تحقيقه لمصر هو الإعلان عن التوصل لاتفاق، بغضّ النظر عن محتواه.
وبحسب المصادر، فإن إثيوبيا لديها في المقابل ورقة رئيسية هي المتاجرة بالوضع السيئ لاقتصادها الوطني بسبب إهدار مواردها الطبيعية وعلى رأسها مياه النيل، كما أنها تروّج في الأوساط المختلفة لفكرة الإدارة المصرية السيئة لمواردها المائية لعقود طويلة، وتزعم مصر فعلياً على رقم أعلى بكثير من حصتها المائية المقررة في اتفاقية 1959 نتيجة عدم وجود سدود ضخمة في إثيوبيا والسودان وبالتالي استفادتها من بواقي الفيضان التي تتجمع في بحيرة ناصر خلف السد العالي.
إثيوبيا أيضاً تتمتع بورقة أخرى هي استنفار الدول الغربية التي دفعت مستثمريها للتعاون في بناء السد، ومنها فرنسا وإيطاليا وألمانيا، فضلاً عن المؤسسات الاستثمارية الدولية الكبرى التي تساهم مالياً في المشروع، ورفضها لأي تلويح مصري بتخريب السد استخبارياً أو عسكرياً.
كما أن إثيوبيا مستفيدة، ولو مؤقتاً، لجبهتها الشرقية من اتفاق السلام الذي وقّع مع إريتريا، والتي كانت على الدوام مصدر خطر طالما استغلته مصر أو حاولت توظيفه ضد إثيوبيا، خصوصاً في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، الذي كانت علاقته سيئة للغاية بالإثيوبيين في تلك الفترة ورافضاً الاعتراف بحقهم في بناء السد.
لكن المصادر الدبلوماسية المصرية اعتبرت أن هناك عدة نقاط أثارها الجانب الإثيوبي في تصريحاته الأخيرة، تكشف عن محاولات لتزييف الواقع ورفع تكلفة مقاطعتها للمفاوضات دعائيا، في إطار الحرب السياسية بين البلدين. من هذه النقاط الادعاء بقدرة إثيوبيا على ملء 4.9 مليارات متر مكعب في شهر يوليو فقط، وقالت المصادر إن أقصى ما يمكن ملؤه سيكون 3 مليارات متر مكعب، حسب مؤشرات الفيضان، وحتى إذا تم التسليم بالرقم الإثيوبي المزعوم فإنه لا يمكن تصوّر قدرة السد على توليد الكهرباء، قبل صيف العام التالي، ذلك لأن مستوى البحيرة وفقاً للتصوّر الإثيوبي لن يمكن من التشغيل قبل الربيع على الأقل.
ومن بين النقاط أيضاً، ما تؤكد عليه المصادر وهو أن إثيوبيا قد لا تستطيع فنياً، البدء في ملء الخزان في يوليو/تموز، بسبب عدم جاهزية الجسم الخرساني للقطاع الأوسط من السد حتى الآن، والمفترض أن يتم الانتهاء منه قبل شهرين على الأقل من بدء الملء، علماً أن مصر كانت تتمنى البدء السريع في فترة الفيضان والرخاء الحالية في نهر النيل.
وشددت المصادر المصرية على أن قرار البدء في الملء لا يمكن بأي حال أن يكون قراراً إثيوبياً مائة في المائة، بل تتدخل فيه اعتبارات عديدة مرجعها للدول الغربية المساهمة في بناء السد، خصوصاً في ظل تعقد المفاوضات مع مصر وعدم سيرها في الاتجاه الذي كانت تأمله تلك الدول، التي لها علاقات مع الطرفين المتنازعين.