توتر بين ماكرون والسيسي وراء صفقة التسليح الإيطالية لمصر

19 فبراير 2020
ظلت ضغوط ماكرون على السيسي منخفضة (لودوفيك مارين/فرانس برس)
+ الخط -
كشفت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد"، عن تفاصيل جديدة خلف الصفقة العسكرية الوشيك إبرامها بين القاهرة وروما، والتي يواجه إتمامها عقباتٍ سياسية عدة، بسبب تردي الأوضاع الحقوقية في مصر وضغط شركاء مؤثرين في التحالف الإيطالي الحاكم على وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء لعدم التصديق على تنفيذها حالياً.

وتحاول أحزابٌ ومجموعات إيطالية عدة، على رأسها حزب رابطة الخمس نجوم الذي ينتمي إليه وزير الخارجية لويجي دي مايو ورئيس مجلس النواب روبرتو فيكو ونائب رئيس البرلمان الأوروبي فابيو كاستالدو، دفع حكومة جوزيبي كونتي لربط إتمام الصفقة بإحداث تقدم ملموس على صعيد التعاون القضائي في تحقيقات قضية مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني. وكان ريجيني قد اختفى في القاهرة في 25 يناير/ كانون الثاني 2016، وعثر على جثته وعليها آثار تعذيب على طريق مصر الإسكندرية، مطلع فبراير/ شباط من العام نفسه. كما تطالب هذه الجهات بالإفراج عن الطالب المصري في جامعة بولونيا باتريك جورج، الذي أصبح عنواناً بارزاً لاهتمامات الإعلام والساسة في إيطاليا، نتيجة المقاربة الشعبية هناك بين ما حدث لريجيني وما يحدث له حالياً. وجورج متهمٌ في قضية بثّ أخبارٍ كاذبة وتحريضٍ على قلب نظام الحكم في مصر، عبر صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".

المصادر المصرية أكدت ما سبق أن كشفته مصادر دبلوماسية أوروبية لـ"العربي الجديد"، في 10 فبراير/ شباط الحالي، عن أن مصر كانت قد أعربت في الخريف الماضي لفرنسا وإيطاليا عن رغبتها في "رفع كفاءة قواتها البحرية، وتوسيع الأسطول الخاص بالفرقاطات متعددة المهام". وبحسب هذه المصادر، فقد أبلغت باريس القاهرة حينها بأنها لن تستطيع الوفاء بالطلبات الخاصة بها على نحو سريع، وأن إيطاليا لديها قطعاً جاهزة من الفرقاطات "فريم"، يمكنها إمداد مصر بها في ربيع 2020 بحدٍّ أقصى.  

لكن المصادر أوضحت أن الفرنسيين لم يكونوا صادقين في قولهم إن سبباً فنياً وراء صعوبة إمداد مصر بالأسلحة والمعدات المطلوبة. وبحسب هذه المصادر، فإن السبب الحقيقي هو "توتر دبلوماسي مكتوم بين البلدين على خلفية ملفات عدة، أبرزها أوضاع حقوق الإنسان، وعدم استجابة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للحديث الذي أدلى به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته الأخيرة لمصر في يناير/ كانون الثاني 2019". وكان ذلك عندما دخل الرجلان خلال مؤتمر صحافي مشترك في مساجلةٍ علنية حول أولوية حقوق الإنسان من وجهتها السياسية في السياق المصري. حينها، كرّر السيسي تمسكه بأن حقوق الإنسان في مصر تختلف عنها في أوروبا، وأن الاهتمام يجب أن يقتصر على ما يسميه الرئيس المصري "الحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، قاصداً بذلك الأجور والمعاشات وصور الضمان الاجتماعي المختلفة والتشغيل والإسكان.

وظلّت ضغوط ماكرون على السيسي في هذا الملف طوال الفترة السابقة على الزيارة، وحتى أثناءها، منخفضة السقف، ولم تخرج عن كونها "مطالبات"، دون التلويح باتخاذ أي إجراءات. ويعود السبب في ذلك إلى استمرار العلاقة العسكرية المزدهرة بين البلدين منذ تولي السيسي الحكم، وإبرامه العديد من صفقات التسليح مع فرنسا، على رأسها صفقة السفينتين الحربيتين من نوع "ميسترال" وسرب الطائرات المقاتلة من نوع "رافال"، ودعم الطرفين لخليفة حفتر في ليبيا. لكن هذا كله لم يمنع السيسي من اتخاذ بعض الخطوات التي اعتبرتها إدارة ماكرون "استفزازية" و"تشي بعدم الاحترام"، ما تسبب في الموقف الأخير الخاص برفض بيع الأسلحة البحرية المطلوبة وتوجيه مصر لاستيرادها من إيطاليا.  

وأوضحت المصادر أن من بين هذه الخطوات عدم حلّ مشاكل الحقوقيين الذين اجتمع بهم ماكرون خلال زيارته السابقة، وجميعهم تقريباً متهمون في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع الأهلي، وممنوعون من السفر ومن التصرف في أموالهم. وكذلك الزجّ في التحريات الأمنية التي أجريت في بعض القضايا الخاصة بالمنظمات الحقوقية ونشطاء العمل الأهلي بأسماء عدد من الدبلوماسيين الفرنسيين، الحاليين والسابقين، باعتبارهم من الشخصيات صاحبة الأجندات المعادية للنظام المصري. وجاء ذلك لمجرد عقد هؤلاء اجتماعات مع النشطاء في إطار تواصلهم مع المجتمع المدني.

ومن الإشكاليات أيضاً في ملف آخر، تفضيل الحكومة المصرية لعروض أميركية وأوروبية أخرى على حساب العروض الفرنسية في بعض المناقصات التي أجريت العام الماضي في قطاعات خدمية ومرفقية عديدة، رغم سابقة وعد القاهرة لباريس بترسيتها عليها، وذلك في إطار حرص السيسي على استغلال مصادر العلاقات التجارية في روابط المصالح مع العواصم الغربية.

وذكرت المصادر أنه بناءً على ذلك التوتر الذي نشأ بتراكم الملاحظات، خاصةً في الملف الحقوقي، فإن فرنسا امتنعت عن تزويد مصر بطلباتها في صفقة التسليح الجديدة، وأشارت عليها بطلبها من روما. ويأتي ذلك في ظلّ خشية باريس من مساءلة الحكومة من الأحزاب عن سبب الاستمرار في دعم مصر مقابل كل هذا التجاهل للمطالبات الفرنسية، واقتصار التنسيق على الملف الليبي من وجهة نظر براغماتية بحتة.

وعقد السيسي خلال الأسابيع الماضية لقاءين مع مسؤولين فرنسيين، كان أولهما في 8 يناير/ كانون الثاني مع وزير الخارجية جان إيف لودريان حول القضية الليبية، وثانيهما في 12 فبراير/ شباط الحالي مع مجموعة الصداقة الفرنسية المصرية في مجلس الشيوخ الفرنسي.  

والصفقة التي من المتوقع إبرامها بين مصر وإيطاليا ستكون قياسية في تاريخ علاقات البلدين بمبلغ 9 مليارات يورو، وتشمل بيع فرقاطتين من نوع "فريم" متعددتي المهام بقيمة 1.5 مليار يورو، لتنضما إلى مثيلتهما التي سبق واشترتها مصر من فرنسا. ومن المعلومات احتمال أن تتضمن الصفقة الكبرى طائرات هليكوبتر ومقاتلات من طراز "يوروفايتر تايفون".

وسبق أن قالت مصادر أوروبية بالقاهرة إن الصفقة لم يتم إبرامها بشكل رسمي حتى الآن، لكنها في طور الإنهاء. وتنتظر هذه الصفقة موافقة الخارجية الإيطالية على خطابات الضمان واعتماد البيع، وذلك بعدما تمّ بالفعل تمويل نحو 30 في المائة من قيمة صفقة شراء الفرقاطتين "فريم" بواسطة قروض حصلت عليها مصر من مصارف أوروبية، ونسبة مماثلة ممولة من قروض حكومية، والنسبة الباقية سيتم دفعها مباشرة من الحكومة المصرية وهي حوالي 500 مليون يورو.

ووفقاً لأسعار السوق هذا العام، فالفرقاطة "فريم" التي يتم إنتاجها في فرنسا وإيطاليا، يناهز سعرها حالياً 700 مليون يورو. وستحصل مصر في الصفقة ذاتها بالإضافة إلى الفرقاطتين على عددٍ من الأسلحة البحرية وتكنولوجيا المراقبة والتسيير عن بعد. وهناك بعض الخلافات حول باقي محتويات الصفقة، لكنها ستشمل بالتأكيد طائرات مقاتلة، وطائرات هليكوبتر من طراز "أغوستا-ويستلاند 149" لم تحصل عليها مصر بعد رغم طلبها في إبريل/ نيسان الماضي من شركة "ليوناردو" في روما.

وكانت وثيقة صادرة عن وزارة الخارجية الإيطالية، نشرت تفاصيلها "العربي الجديد" في يوليو/ تموز الماضي، قد كشفت أن مصر حققت رقماً قياسياً على مستوى مشتريات الأسلحة والذخائر والنظم المعلوماتية الأمنية الإيطالية العام الماضي، متخطيةً الـ69 مليون يورو. وهذا الرقم أكثر من ضعف أكبر مبلغ دفعته مصر نظير الأسلحة الإيطالية في عام واحد على الإطلاق، ويفوق بكثير سعر مشترياتها من الأسلحة والذخيرة في جميع الأعوام من 2013 إلى 2017. ففي عام 2013، استوردت مصر أسلحة من إيطاليا بمبلغ 17.2 مليون يورو، وفي عام 2014 استوردت بمبلغ 31.8 مليون يورو، وفي عام 2015 بلغ ثمن الواردات 37.6 مليون يورو، ثم انخفضت الواردات بشكل ملحوظ عام 2016 ليبلغ سعرها 7.1 ملايين يورو، وفي 2017 ازدادت بصورة طفيفة إلى 7.4 ملايين يورو، قبل أن تصل لمستوى قياسي في عام 2018 بمبلغ 69.1 مليون يورو.

وكانت أبرز البضائع العسكرية المستوردة المسدسات والبنادق الصغيرة لتسليح الجيش، والقنابل، وقطع غيار بعض الأسلحة الأميركية الصنع المنتجة حصراً في إيطاليا، وأنظمة التوجيه والقيادة والسيطرة الميدانية. وهذه البضائع قابلة للاستخدام العسكري، وأجهزة إلكترونية ورادارية مختلفة للاستخدام العسكري، والأنظمة المعلوماتية الذكية التي تم توريدها إلى هيئات مختلفة بالجيش وكذلك للشرطة.

يذكر أن إيطاليا في مرحلة تصعيد الضغط مرة أخرى على مصر بشأن ريجيني منذ سبتمبر/ أيلول الماضي مع خروج الحليف الأبرز للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في روما، زعيم حزب "رابطة الشمال" ماتيو سالفيني، من التحالف الحكومي، وزيادة عدد المقاعد الوزارية الخاصة بحركة "الخمس نجوم" وتولي زعيمها الشاب دي مايو وزارة الخارجية، خلفاً للوزير المستقل القريب من سالفيني، إنزو ميلانيزي.

وقبل أسبوع، صعّد رئيس مجلس النواب الإيطالي روبرتو فيكو، وعدد من نواب "الخمس نجوم" ضغطهم على حكومة كونتي، لممارسة مزيد من الضغوط "الواقعية" على مصر لكشف الحقيقة. وقالت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد"، إن السفارة المصرية في روما رصدت محاولة ممنهجة من نواب ووسائل إعلام وبعض النشطاء اليساريين لنشر دعوات لمقاطعة مصر سياحياً، لحين الإفصاح عن الحقيقة، أو على الأقل تعاطي القاهرة بشكل إيجابي مع الأسئلة الإيطالية الرئيسية في تحقيقات ريجيني. وكان ادعاء روما قد قدم هذه الأسئلة للنيابة المصرية خلال اجتماع استئناف التعاون القضائي بين البلدين الذي انعقد منتصف الشهر الماضي بالقاهرة.




 

المساهمون