أعاد اجتماع الجزائر، أمس الخميس، بعث روح سياسية في الآلية الإقليمية لدول جوار ليبيا، لتنسيق المواقف وتوحيدها إزاء التدابير الممكنة لحل الأزمة، بعد فترة هُمِّش خلالها دورها، برغم كونها المعنية أكثر من غيرها بتداعياتها الأمنية والسياسية.
وانتهى اجتماع دول جوار ليبيا إلى توافقات سياسية مشتركة، تخص تثبيت وقف إطلاق النار بين مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر والقوات التابعة لحكومة الوفاق، وحظر توريد الأسلحة إلى أيٍّ من طرفي النزاع، ورفض أي تدخلات أجنبية في الوضع الليبي، والاعتراض على وجود قوات أجنبية هناك، لكون التدخلات وإضافة العنصر والعامل الأجنبي يُعقد الوضع فيها، ودعم إطلاق مسار للحل السياسي وحوار بين مجمل الفرقاء الليبيين. وكشف وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم، في مؤتمر صحافي عقب الاجتماع، أن وزراء الخارجية المشاركين اتفقوا على "إجبارية احترام ليبيا الموحدة وسيادتها، وإجبارية حظر تدفق الأسلحة"، موضحاً أنه اتُّفق على دعوة الأمم المتحدة والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن إلى ضمان تطبيق القرار وفقاً للبند السابع.
لكن هذه القرارات تبدو نسخة مُكررة من مخرجات مؤتمر برلين الأخير، وأقل وضوحاً في علاقة بالآليات التي يتوخى عبرها تنفيذها. غير أن الجزائر وفرت عبر هذا الاجتماع فرصة لإعادة نقل النقاش حول الأزمة الليبية إلى فضائها الجغرافي والإقليمي، والحصول على التزام إقليمي بالمساعدة في تثبيت وقف إطلاق النار من جهة، ومن جهة ثانية وفرت للدول التي لم تشارك في مؤتمر برلين، خصوصاً تونس ومالي وتشاد والنيجر والسودان، فرصة لإعلان مواقفها إزاء الأزمة مباشرةً، بحضور وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، الذي جاء لإبلاغ وزراء خارجية هذه الدول بمخرجات مؤتمر برلين، وتعزيز دور دول الجوار في الأزمة.
والأمر الأخير كان محور كلمات الوزراء المشاركين في الاجتماع. واقترح وزير الخارجية المالي تيكلي درامي على دول الجوار عقد لقاءات دورية كل ستة أشهر حول الملف الليبي في عاصمة من العواصم. وقال إن مالي تُعَدّ من أكبر ضحايا الأزمة الليبية، محذراً من مشكلة المقاتلين المرتزقة فيها، فيما حذّر وزير خارجية تشاد شريف زين من تنامي المجموعات الإرهابية في المنطقة بسبب تداعيات الأزمة الليبية. وجدد وزير الخارجية التونسي بالنيابة صبري باش طابجي موقف بلاده الرافض لأي تدخل أجنبي في ليبيا واستعدادها للمساعدة في إطلاق الحوار الليبي الليبي. وثمّن وكيل وزارة الخارجية السودانية الصديق عبد العزيز اجتماع الجزائر، مشيراً إلى أنه يعزز من مسار الحوار، ويسهم في تثبيت وقف إطلاق النار.
وحتى وإن أبدى وزير الخارجية المصري سامح شكري دعماً لحل ليبي ليبي، فلا تبدو القاهرة على الأرض مقتنعة به. وركز شكري، في الاجتماع، على موضوع الإرهاب، في محاولة لتوفير مبررات لعمليات المليشيات التي يقودها حفتر، وتبرير التدخلات المصرية الواضحة في ليبيا. وقال شكري إن "القضية المهمة هي التنظيمات الإرهابية التي توجد في ليبيا والمرتبطة بتنظيمات في سورية، والمجتمع الدولي اهتم بداعش في سورية وتغافل عن التنظيمات الموجودة في ليبيا"، مشيراً إلى أن القاهرة "لن تسمح بالعبث بأمن ليبيا، وندين محاولات السطو على ثروات ليبيا". وكان واضحاً خلال الاجتماع أن الجزائر، التي بادرت بالدعوة إلى عقده، تسعى إلى الحصول على دعم إقليمي لمبادرة مسار داعم لمسار برلين، يتضمن عقد جولات حوار ليبي ليبي، وهي تعمل على استغلال تجربتها التي اكتسبتها في مجال الوساطة السياسية الناجحة سابقاً، على غرار التي قادت إلى إحلال السلام في مالي وفي مناطق ونزاعات أخرى، لدعم جهود التسوية السياسية للأزمة الراهنة في ليبيا، خصوصاً أنها تقف على مسافة مقبولة من الطرفين الرئيسيين للأزمة.
وفي السياق، لفت وزير الخارجية الجزائري إلى أن اجتماع دول الجوار هو "محطة تشاورية ولا يهدف إلى منافسة أي مسار أو منظمة أخرى". وأعلن بوقادوم أن الجزائر تتجه إلى احتضان الحوار الليبي الليبي في وقت لاحق، مشيراً إلى أن "هناك مواقف مشجعة وترحيباً من كل الأطراف الليبية باحتضان الجزائر لجولات الحوار، التي تُخرج البلد من أزمته وتمكن الشعب الليبي من بناء دولة ديمقراطية قادرة على بسط سيطرتها". وأضاف: "هناك في ليبيا أكثر من طرفين في النزاع، مثل القبائل، والكثير من الأطراف الليبية وافقت على الحوار. وفي الأيام المقبلة سيكون هناك رد على مساعي لمّ شمل الليبيين". ودعا الأطراف الليبية كافة إلى الجلوس حول طاولة حوار ونبذ العنف والحل العسكري، مشدداً على ضرورة تثبيت وقف إطلاق النار والاستجابة للحل السياسي. وقال: "لن نتحاور مع من ينادي بالعنف".
وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قد كشف في حوار بثه التلفزيون الرسمي قبل يومين، وجود نية للجزائر لإطلاق مبادرة وساطة سياسية بين طرفي الأزمة في ليبيا، مشيراً إلى أن "الجزائر حصلت على إجماع في برلين بشأن إعلان استعدادها لاحتضان الوساطة بين الفرقاء الليبيين. الجزائر مؤهلة لذلك، ونحن لدينا ثقة هؤلاء، وهؤلاء وكذا قبائل الجنوب والتبو، وصدرت تصريحات مشجعة من (رئيس حكومة الوفاق فائز) السراج ومن مسؤولين مع حفتر لكي تلعب الجزائر دوراً في الوساطة لحل الأزمة، لكونها أكثر الدول التي لا تسعى إلى تحقيق أية مصالح في ليبيا وليست لها أية نيات توسعية، ولكون الجزائر تعمل في صمت ولا تسعى إلى البروز".
وحاولت الجزائر، خلال اجتماع دول الجوار، تحقيق اختراق على صعيد إزالة الجمود والقطيعة بين طرفي الأزمة، من خلال السعي إلى استقدام وزيري الخارجية في حكومة برلمان طبرق، وفي حكومة الوفاق، برغم أنها تعترف فقط بحكومة الوفاق. لكن المسافة السياسية ما زالت متباعدة بين الطرفين. وقد دفع حرص الجزائر على إبقاء عامل الثقة مع طرفي الأزمة في ليبيا، وتجنب أزمة مع حكومة الوفاق، إلى التراجع في آخر لحظة عن دعوة وزير خارجية حكومة برلمان طبرق عبد الهادي الحويج، وإنكار توجيهها أية دعوة، بعد رفض وزير خارجية حكومة الوفاق محمد الطاهر سيالة المشاركة، وإصداره بياناً أكد فيه "رفضه المشاركة في الاجتماع، واتصاله هاتفياً بنظيره الجزائري لإبلاغه أن سبب الرفض يعود إلى حضور ما يُسمى وزير خارجية الحكومة المؤقتة، الأمر الذي يعد مخالفة صريحة لقرارات مجلس الأمن ولقرار المنظمات الدولية كافة التي تحظر التعامل مع الأجسام الموازية في ليبيا".
ويدرج مراقبون مخرجات اجتماع الجزائر ضمن بدايات الحل ومؤشرات الانفراج. وتوقع المحلل السياسي والباحث في الشؤون الإقليمية حمدي بركاتي، لـ"العربي الجديد"، أن "تدخل الأزمة الليبية مرحلة جديدة في مسار التسوية السياسية، بعدما أخذت الجزائر زمام المبادرة بدعوة دول جوار ليبيا إلى اجتماع لتقديم مقارباتهم، والدفع نحو التسوية السياسية بين الطرفين، لاعتبارات جغرافية وجيوسياسية تهم الجزائر". وأوضح أنه يمكن الحديث عن "مؤشرات لقرب انفراج في الأفق، خصوصاً مع وجود تقارب في الموقف بين الجزائر وتونس والسودان كدول عربية تشترك في المقاربة السياسية من الملف الليبي، بالإضافة إلى مالي وتشاد والنيجر. هذا التقارب سيدفع إلى حلحلة الموقف المصري، بالإضافة إلى أنهم سيشكلون ورقة ضغط إضافية إلى تلك التي وُقِّعَت في برلين من أجل الضغط على حفتر ودفعه نحو الذهاب إلى الحل السياسي بعيداً عن لغة العجرفة والسلاح، خصوصاً إذا اضطرت مصر إلى رفع الدعم المادي واللوجستي عن حفتر". واعتبر بركاتي أن "التحدي المركزي لدول الجوار يتعلق بكبح حفتر، المدعوم من دول عربية وأجنبية، على اعتبار أنه كان المُبادر دوماً إلى خرق الاتفاقيات المتعلقة بوقف إطلاق النار لفسح المجال للحل السياسي".